الخميس. أكتوبر 17th, 2024

الشرف والعنف في المجتمعات التقليدية.. هل يمكن تغيير هذه الثقافة؟

في العديد من المجتمعات التقليدية، يُعتبر مفهوم “الشرف” من أكثر القيم المحورية التي تشكل السلوك الاجتماعي، خاصة فيما يتعلق بالنساء. يترجم مفهوم الشرف إلى مجموعة من القواعد الصارمة التي تحدد السلوك المقبول وغير المقبول، مما يؤدي إلى ربط السلوك الفردي بالشرف العائلي، الذي يمكن أن يُفقد في حالة مخالفة المعايير المجتمعية. في هذه المجتمعات، يعزز مفهوم الشرف الانضباط الاجتماعي، لكنه في المقابل يصبح أداة للسيطرة والعنف، خصوصًا ضد النساء والفئات الأكثر ضعفًا.

مفهوم الشرف لا يُعتبر مجرد قيمة فردية، بل هو قيمة مجتمعية متجذرة في الهياكل التقليدية التي تفرض سلطتها على الأفراد، خاصة في البيئات التي تحافظ على القيم الأبوية. يُستخدم الشرف كأداة للسيطرة، حيث يُلزم الفرد بالتقيد بالقواعد التي تعزز السلطة الذكورية وتحافظ على السيطرة الاجتماعية. المرأة غالبًا ما تكون في قلب هذه الصراعات، حيث يُربط شرف العائلة أو القبيلة بسلوكها وسمعتها.

العنف القائم على الشرف يشمل أشكالًا متعددة مثل العقوبات المجتمعية، النبذ، وأحيانًا يصل إلى العنف الجسدي مثل “جرائم الشرف”. في هذه السياقات، يُعتبر السلوك الذي يخالف التوقعات الاجتماعية تهديدًا لشرف العائلة، ما يؤدي إلى اتخاذ إجراءات صارمة لإعادة “الشرف المفقود”. في كثير من الحالات، تُعتبر النساء هدفًا للعنف بسبب اختيارات تتعلق بالزواج، التعليم، أو الحريات الشخصية.

الديناميكيات الثقافية والدينية

في المجتمعات التقليدية، يتداخل مفهوم الشرف مع الدين والقيم الثقافية. تعزز بعض الخطابات الدينية والأعراف الاجتماعية قيم الشرف، وتُستخدم لتبرير العنف ضد النساء والأفراد الذين يتحدون تلك الأعراف. يتم دعم الهياكل الاجتماعية القائمة على مفهوم الشرف من خلال الأدوار الجندرية الصارمة، التي تُعتبر فيها النساء حاملات لشرف العائلة أو الجماعة. الرجال في المقابل يُمنحون حق حماية هذا الشرف، وهو ما يعزز من سلطة الذكور ويعطيهم الحق في استخدام القوة لتأديب النساء أو التحكم في سلوكهن.

العنف المرتبط بالشرف ليس مجرد فعل فردي، بل هو جزء من نظام اجتماعي معقد يحافظ على السلطة الاجتماعية. تُستخدم جرائم الشرف كوسيلة لإعادة التوازن الاجتماعي بعد ما يُعتبر “إهانة” لشرف العائلة. هذه الثقافة تغذيها نظرة المجتمع التي تجعل من الشرف قيمة لا يمكن تعويضها إلا بالعنف أو العقاب الشديد، مما يدفع بالعائلات إلى اتخاذ إجراءات قاسية لحماية سمعتها.

علاوة على ذلك، قد تتواطأ الأنظمة القانونية والقضائية في بعض البلدان مع هذه الثقافة، حيث يتم التساهل في التعامل مع جرائم الشرف أو تقديم تبريرات قانونية تخفف من عقوبات مرتكبيها. هذا التواطؤ يدعم استمرار ثقافة العنف المرتبط بالشرف، ويجعل من الصعب تحدي هذه الهياكل.

الدكتورة ليلى الحوراني، الخبيرة في قضايا المرأة وحقوق الإنسان، ترى خلال حديثها لـ”شُبّاك” أن العنف المرتبط بالشرف ليس فقط نتيجة مباشرة للثقافة التقليدية بل أيضًا وسيلة لاستدامة النظام الأبوي الذي يعزز التفرقة الجندرية. وتضيف: “مفهوم الشرف والعنف الموجه ضد النساء هو انعكاس مباشر لسيطرة الذكور في المجتمعات التقليدية. يتم استخدام النساء كرموز لشرف العائلة، ما يجعلهن عرضة للعنف إذا ما تم انتهاك تلك المعايير المجتمعية الصارمة. ما يجب أن نفهمه هو أن هذا النظام ليس مجرد مجموعة من القيم الاجتماعية، بل هو جزء من آلية تحكم في النساء وتحديد أدوارهن في المجتمع.”

وترى الحوراني أن التغيير يجب أن يبدأ من الجذور الثقافية التي تربط بين الشرف وسلوك المرأة. “التعليم يجب أن يكون الأساس في عملية التغيير. تعليم الأجيال القادمة أن الشرف هو مفهوم أوسع بكثير من مجرد التحكم في حياة النساء وأن المساواة والعدالة هما أساس أي مجتمع متحضر. إدخال هذه المفاهيم في المناهج التعليمية يمكن أن يساعد في تشكيل وعي جديد حول حقوق المرأة.”

كما تؤكد على ضرورة تمكين النساء ليصبحن أكثر استقلالية في اتخاذ القرارات الشخصية. “النساء في المجتمعات التقليدية غالبًا ما تُحتجز بين عادات وتقاليد تعتبر سلوكهن الخاص مسألة جماعية، وبالتالي يشعرن بعدم القدرة على تقرير مصيرهن. التمكين القانوني والاقتصادي هو خطوة حاسمة نحو إعطاء النساء السيطرة على حياتهن.” وتعتبر الحوراني أن إصلاح القوانين ليس كافيًا بحد ذاته، بل يجب أن يكون مدعومًا بحملات توعية ثقافية واجتماعية تشجع على تبني مفاهيم جديدة حول الشرف.

هل يمكن تغيير هذه الثقافة؟

تغيير هذه الثقافة يتطلب إعادة تعريف مفاهيم الشرف والكرامة في المجتمعات التقليدية، والتخلص من الربط بين السلوك الفردي و”الشرف العائلي”. هذه التحولات الثقافية يمكن أن تبدأ من خلال التعليم والوعي المجتمعي، إلى جانب تعزيز دور القانون في حماية الأفراد من العنف والتمييز. يتطلب ذلك أيضًا إعادة النظر في القوانين التي تُشرع العنف باسم الشرف أو تتساهل مع مرتكبي هذه الجرائم.

بعض الدول التي كانت تعاني من مشكلات جرائم الشرف بدأت في اتخاذ خطوات لتغيير هذه الثقافة من خلال القوانين والتشريعات. على سبيل المثال، في الأردن وباكستان، تم اتخاذ خطوات لإصلاح القوانين التي كانت تُخفف عقوبات جرائم الشرف، وتفعيل حملات توعية تروج لمفاهيم جديدة تتعلق بحقوق الإنسان والمساواة.

ومع ذلك، فإن التغيير لا يمكن أن يكون مجرد إصلاح قانوني. يجب أن يترافق مع حركة مجتمعية تهدف إلى تغيير العقليات والأعراف الثقافية التي تعزز من مفهوم الشرف التقليدي. العديد من المبادرات المجتمعية النسوية تساهم في هذا التحول، عبر تعزيز النقاشات حول حقوق المرأة والمساواة الجندرية.

سامي العابد، وهو عالم اجتماع متخصص في الثقافة التقليدية، يرى خلال حديثه لـ”شُبّاك” أن العنف المرتبط بالشرف هو جزء من ديناميكيات اجتماعية معقدة تهدف إلى حماية السلطة الذكورية في المجتمعات التقليدية. ويوضح قائلاً: “في هذه المجتمعات، يُعتبر شرف العائلة ملكية جماعية، والرجال يُنصبون كحراس له. العنف الناتج عن الشرف ليس مجرد سلوك فردي، بل هو آلية مؤسسية تُستخدم لتعزيز هذه البنية الاجتماعية. إن العائلة ليست وحدة فردية في هذه المجتمعات بقدر ما هي نظام من القيم والمبادئ التي تخدم الحفاظ على التراتبية الاجتماعية.”

يرى العابد أن التغيير يحتاج إلى إعادة التفكير في الأدوار الجندرية داخل المجتمع. “نحن بحاجة إلى إعادة تشكيل مفهوم الذكورة والأنوثة. العنف المرتبط بالشرف يستند إلى افتراضات محددة حول الأدوار التي يجب أن يلعبها كل جنس في المجتمع. إعادة التفكير في هذه الأدوار قد يساعد في تفكيك الديناميكيات التي تغذي العنف ضد النساء.”

كما يعتقد العابد أن استخدام الإعلام والفن لتغيير السردية المجتمعية أمر أساسي. “السينما، التلفزيون، والإعلام الجديد يمكن أن تسهم بشكل كبير في تغيير طريقة تفكير المجتمع حول مفهوم الشرف. عرض قصص نساء واجهن العنف بسبب الشرف وتسليط الضوء على معاناتهن يمكن أن يخلق تعاطفًا ويدفع نحو التغيير. يجب أن نرى المزيد من الأعمال الفنية التي تتناول هذه القضايا بجرأة وتساهم في خلق نقاشات مجتمعية عميقة حول هذه القيم التقليدية.”

العابد يلفت الانتباه إلى دور القانون في مكافحة العنف المرتبط بالشرف، لكنه يرى أن إصلاح القانون وحده لا يكفي. “الأنظمة القانونية في كثير من الأحيان تعكس القيم الاجتماعية السائدة، ولذلك فإن أي إصلاح قانوني يحتاج إلى دعم مجتمعي حقيقي ليكون فعالًا. القانون يجب أن يتماشى مع تطور الوعي الاجتماعي ويعمل على حماية الأفراد، وليس فقط معاقبة الجناة. نحن بحاجة إلى رؤية قانونية تقدمية تركز على الوقاية والتوعية بدلاً من الاكتفاء بالعقاب.”

دور الإعلام والفن في تغيير السرديات

الإعلام والفن لهما دور حاسم في تغيير التصورات الثقافية حول الشرف والعنف. الأفلام الوثائقية، الدراما التلفزيونية، والبرامج الحوارية التي تتناول قصص الناجيات من العنف المرتبط بالشرف تساعد في تسليط الضوء على الآثار النفسية والاجتماعية لهذه الممارسات. هذه المنصات الإعلامية تسهم في خلق وعي أكبر حول مخاطر العنف القائم على الشرف وتعزيز النقاش حول كيفية تغيير هذه الثقافة.

تغيير الثقافة المرتبطة بالشرف والعنف في المجتمعات التقليدية ليس مهمة سهلة، ولكنه ممكن. تتطلب هذه العملية جهودًا مشتركة من المجتمع المدني، الحكومات، والتعليم، والإعلام، لمواجهة العقليات القديمة وتعزيز قيم المساواة والكرامة الإنسانية. يمكن للتغيير أن يبدأ بإعادة تعريف الشرف على أنه قيمة فردية تعتمد على الاحترام المتبادل والمساواة، وليس على السيطرة والعنف.

Related Post