Spread the love

لم تعد القهوة الفاخرة أو الملابس ذات العلامات التجارية مقتنيات عادية في حياة المصريين من الطبقة الوسطى، بل تحولت إلى رموز للرفاهية المفقودة في ظل أزمة اقتصادية تعصف بالبلاد. ومع استمرار ارتفاع الأسعار وتآكل القدرة الشرائية، يجد كثير من الأسر المصرية نفسها مضطرة إلى إعادة تعريف أولوياتها المعيشية.

منار، التي تعمل مدرسة بدوام جزئي، لم تتخيل أن تصل إلى هذه المرحلة، حيث باتت تعتمد على شقيقها الذي يعمل في الخارج لإرسال السلع التي لم تعد في متناول اليد، مثل القهوة المستوردة، في وقت أصبحت فيه اللحوم تُستهلك بحسابٍ دقيق. تقول بحزن: “أسلوب الحياة الذي نشأت عليه تغيّر تماماً، الآن أفكر أكثر من مرة قبل شراء الأساسيات من طعام وملابس.”

بين التضخم والإصلاحات القاسية: كيف فقدت الطبقة الوسطى توازنها؟

تمر مصر حاليًا بأسوأ أزمة اقتصادية في تاريخها الحديث، مدفوعة بارتفاع التضخم إلى 26.5% سنوياً، وبتراجع عائدات قناة السويس بسبب الهجمات الحوثية على السفن في البحر الأحمر، إضافة إلى الضغوط الناجمة عن سياسات التقشف المفروضة بموجب برنامج الإصلاح الاقتصادي المدعوم من صندوق النقد الدولي.

وقد حصلت مصر على قرض بقيمة 8 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي، مقابل التزامها بإصلاحات قاسية تشمل، تحرير سعر الصرف وتعويم الجنيه المصري، ما أدى إلى تآكل قيمته مقابل الدولار. رفع الدعم عن الوقود، مما أثر على أسعار جميع السلع والخدمات. زيادة الضرائب والرسوم، ما زاد من الضغوط المالية على المواطنين.

ولم يكن هذا البرنامج الأول من نوعه، حيث سبق لمصر أن تبنت في عام 2016 برنامجاً مشابهاً حصلت بموجبه على 12 مليار دولار، لكن آثاره ظلت تثقل كاهل المواطنين لسنوات. واليوم، يبدو أن البرنامج الجديد أشد قسوة، وفقًا للخبير الاقتصادي وائل جمال، مدير وحدة العدالة الاجتماعية في “المبادرة المصرية للحقوق الشخصية”، الذي يرى أن التأثيرات الأخيرة أكثر عنفاً من السابق، مشيراً إلى أن القرارات الاقتصادية الأخيرة أدت إلى “تآكل كبير في مستويات معيشة الناس، خاصة مع ارتفاع أسعار الأدوية والخدمات والنقل”.

في شوارع القاهرة، يعكس سلوك المتسوقين الواقع الاقتصادي الجديد. أصبح الناس يدققون في الأسعار قبل الشراء، ويعيدون النظر في قوائم مشترياتهم، ويتجهون إلى تقليل الكماليات والاستغناء عن المنتجات غير الضرورية.

تروي زينب جمال (28 عاماً)، وهي ربة منزل، كيف تغيرت عاداتها الشرائية: “سابقاً كنت أبتاع مشترياتي مرة واحدة في الشهر، الآن أشتري أسبوعياً وبكميات أقل. لم نعد نشتري الحلويات، وبالنسبة للألبان قللنا الكميات.”

أما نورهان خالد (27 عاماً)، الموظفة في شركة خاصة، فتقول إنها استغنت عن شراء الملابس والعطور وحتى الشوكولاتة لأطفالها، لأن راتبها بالكاد يغطي المصاريف الأساسية. “المرتّب كله يُصرف على المواصلات والأكل، وبالطبع لا أشتري كلّ ما أريده.”

هل يمكن للحكومة السيطرة على الأزمة؟

تحاول الحكومة المصرية طمأنة المواطنين بأن الأزمة لن تستمر طويلاً، حيث قال الرئيس عبد الفتاح السيسي الشهر الماضي إن الوضع الاقتصادي قد يستمر لمدة عام كامل، لكنه أكد أن مصر “لن تتخذ قرارات تزيد من أعباء المواطنين دون مراجعة”.

أما رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، فقد صرّح بأن الحكومة لن “تتخذ أي قرارات جديدة تضيف أعباء مالية على المواطنين في الفترة المقبلة”، لكنه لم يحدد كم ستستمر هذه الفترة، وما إذا كانت هناك خطط بديلة لدعم المتضررين من الأزمة.

ومع ذلك، يشكك بعض المحللين في قدرة الحكومة على الوفاء بهذه التعهدات، حيث يرى وائل جمال أن الحكومة قد تمدّد تنفيذ الاتفاقيات مع صندوق النقد أو تطبقها بشكل تدريجي لتخفيف ردة الفعل الشعبية، لكنه يستبعد أن تتراجع عن الإصلاحات تماماً.

مع تفاقم الأزمة، أصبحت تحويلات المصريين العاملين في الخارج مصدر دعم أساسي لعائلاتهم في الداخل. حيث يرسل العاملون في الخارج ما يقارب 30 مليار دولار سنوياً، وهو رقم حيوي لاستقرار الاحتياطيات النقدية المصرية، لكنه بات يستخدم اليوم ليس فقط لدعم المصاريف الأساسية، بل أيضاً لشراء سلع لم يعد بالإمكان تحمل تكاليفها داخل البلاد.

تقول منار إنها تعتمد الآن على شقيقها في الخارج لجلب “الرفاهيات” مثل الملابس ذات العلامات التجارية والقهوة المستوردة، والتي ارتفعت أسعارها بشكل جنوني. “كل تفكيري الآن ماذا سنفعل إذا حدثت زيادات أخرى في الفترة المقبلة.”

المستقبل الاقتصادي لمصر: إلى أين تتجه الأمور؟

على الرغم من محاولات الحكومة طمأنة المواطنين، إلا أن الوضع الاقتصادي لا يزال ضبابياً، حيث أن استمرار الالتزامات تجاه صندوق النقد الدولي، وغياب إصلاحات هيكلية حقيقية، قد يجعلان من الصعب تخفيف الضغوط عن المواطنين في المدى القريب.

يرى الخبير الاقتصادي عبد الرحمن فهمي أن “الحل الحقيقي لأزمة الاقتصاد المصري لا يكمن فقط في القروض والتقشف، بل في تبني سياسات تحفز الإنتاج المحلي، وتجذب الاستثمارات الحقيقية، وتقلل الاعتماد على الاقتراض الخارجي”.

لكن إلى أن يتحقق ذلك، يبقى المواطن المصري الضحية الأكبر لهذه الأزمة، حيث يواجه يومياً تحديات تأمين الغذاء، ومواكبة الأسعار، وإعادة ترتيب أولوياته في ظل اقتصاد لم يعد يرحم الطبقة الوسطى.

ويبقى السؤال الأساسي: هل تستطيع الحكومة المصرية التخفيف من تداعيات الأزمة على المواطنين، أم أن الطبقة الوسطى في مصر ستواصل التآكل، لتقترب أكثر من دائرة الفقر؟

error: Content is protected !!