الخميس. أكتوبر 17th, 2024

الطريق إلى الجمهورية.. قراءة في تاريخ الحركات القومية في سوريا ولبنان

منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، كانت سوريا ولبنان، مثل باقي مناطق الشرق الأوسط، تشهد تحولات سياسية واجتماعية عميقة. في هذا الإطار، ظهرت الحركات القومية كوسيلة لتحدي الهيمنة الأجنبية وبناء هويات وطنية جديدة. هذه الحركات سعت إلى تشكيل جمهوريات قائمة على أسس قومية، متحررة من الاستعمار العثماني والفرنسي، ومبنية على الأفكار الحديثة مثل الاستقلال والديمقراطية والسيادة الوطنية.

بدايات حركة التحرر

القومية في سوريا ولبنان لم تنشأ في فراغ، بل كانت نتيجة تفاعل مع تيارات فكرية عالمية وتأثيرات محلية وإقليمية. في أواخر القرن التاسع عشر، بدأت تظهر الحركات القومية كرد فعل على تدهور الدولة العثمانية، التي كانت تعتبر “الرجل المريض” في أوروبا. مع زيادة التحديث والتدخل الغربي في الشؤون العثمانية، بدأت تظهر الحركات التي تطالب بإصلاحات سياسية وبناء هوية عربية منفصلة عن الحكم العثماني.

في سوريا ولبنان، كانت هذه الحركات تأخذ أشكالًا متعددة. في لبنان، على سبيل المثال، بدأت تظهر تحركات سياسية وفكرية متأثرة بالنهضة الثقافية العربية التي قادها مفكرون وأدباء مثل بطرس البستاني وجبران خليل جبران. هؤلاء دعوا إلى الانفتاح على الأفكار الحديثة في التعليم والعلوم، إلى جانب التمسك بالهوية العربية. أما في سوريا، فقد تركزت الحركات القومية حول فكرة استعادة الوحدة العربية والخروج من هيمنة “الأجنبي”، سواء كان عثمانياً أو فرنسياً لاحقًا.

الانتداب الفرنسي وتشكيل القومية الحديثة

مع سقوط الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى وفرض الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان، بدأت مرحلة جديدة من الكفاح القومي. الانتداب كان بمثابة خطوة جديدة في محاولة السيطرة على الشرق الأوسط من قبل القوى الاستعمارية، مما أثار موجة من المقاومة والرفض بين السكان المحليين.

في لبنان، تم تأسيس دولة لبنان الكبير تحت الانتداب الفرنسي عام 1920، مما أثار انقسامات داخلية حول هوية الدولة الجديدة. الطوائف المسيحية كانت في كثير من الأحيان داعمة لفكرة الدولة المنفصلة عن سوريا، في حين أن المسلمين، خاصة في الجنوب والبقاع، كانوا يميلون إلى فكرة الوحدة مع سوريا.

في سوريا، كانت المقاومة ضد الانتداب الفرنسي أكثر صراحة وعدوانية. الحركة القومية السورية، بقيادة شخصيات مثل سلطان باشا الأطرش ويوسف العظمة، لعبت دورًا محوريًا في تنظيم الانتفاضات ضد الحكم الفرنسي. الثورة السورية الكبرى (1925-1927) كانت واحدة من أبرز محطات المقاومة ضد الانتداب الفرنسي، حيث تمحورت حول فكرة استعادة الاستقلال والسيادة الوطنية.

في الثلاثينيات والأربعينيات، بدأت الحركات القومية تأخذ طابعًا أكثر تنظيماً وإيديولوجياً. في هذا السياق، تأسس الحزب القومي السوري الاجتماعي على يد أنطون سعادة في عام 1932. سعادة دعا إلى تشكيل “سوريا الكبرى”، دولة تضم سوريا ولبنان وفلسطين والأردن، وكانت رؤيته تعتمد على القومية الشاملة والوحدة الوطنية كأدوات لمواجهة الاستعمار والهيمنة الخارجية.

بالتوازي مع ذلك، ظهرت حركة البعث العربي الاشتراكي في سوريا، التي أسسها ميشيل عفلق وصلاح البيطار. حركة البعث كانت تهدف إلى إحياء الهوية العربية والقومية عبر الاشتراكية والوحدة العربية. هذه الحركة نادت بإنشاء جمهورية عربية موحدة تكون قادرة على مواجهة التحديات الاستعمارية الغربية، وتعزيز العدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية.

الحزبان القومي السوري والبعث كانت لديهما خلافات حول مفهوم القومية، حيث فضل القومي السوري رؤية تعتمد على توحيد سوريا الطبيعية، بينما ركز البعث على الوحدة العربية الكبرى.

الاستقلال والبحث عن النظام الجمهوري

في الأربعينيات، بدأت تتزايد الضغوط الدولية والمحلية على فرنسا للانسحاب من سوريا ولبنان. في عام 1943، تم إعلان استقلال لبنان، وأعقب ذلك انسحاب الفرنسيين في عام 1946 من سوريا، مما فتح الباب أمام تشكيل جمهوريات جديدة في كلا البلدين.

في لبنان، تم اعتماد نظام سياسي قائم على التوافق الطائفي بين مختلف الطوائف الدينية. هذا النظام كان بمثابة “حل وسط” بين الطوائف الكبرى في البلاد، ولكنه أيضًا كان مصدرًا للصراعات الداخلية والانقسامات السياسية لاحقاً.

في سوريا، بعد الاستقلال، كانت البلاد تشهد سلسلة من الانقلابات العسكرية في الخمسينيات والستينيات. هذه الفترة كانت تعكس الصراع بين التيارات القومية المختلفة، بما في ذلك البعثيون والناصريون والقوميون السوريون، حول كيفية تشكيل الجمهورية المستقبلية، وما إذا كانت ستكون مبنية على أساس قومي عربي شامل أو قومي سوري.

منذ منتصف القرن العشرين وحتى اليوم، شهدت كل من سوريا ولبنان تحولات كبيرة مرتبطة بالهوية القومية والنظام الجمهوري. لبنان دخل في حرب أهلية طويلة (1975-1990) تأثرت بالتوترات الطائفية والتدخلات الإقليمية والدولية. هذه الحرب كانت تعبيراً عن فشل النظام الطائفي في تحقيق الاستقرار والوحدة الوطنية، وكذلك عن تأثير القوى الإقليمية مثل سوريا وإسرائيل وإيران.

في سوريا، وبعد فترة من الاستقرار النسبي تحت حكم حزب البعث، دخلت البلاد في حرب أهلية مدمرة في عام 2011. هذه الحرب أثارت من جديد تساؤلات حول الهوية القومية ومستقبل النظام الجمهوري في سوريا. بعض المجموعات كانت تسعى إلى تأسيس نظام ديمقراطي جديد، في حين كانت أخرى تركز على العودة إلى الهوية القومية العربية التقليدية أو إحياء الهويات المحلية.

الحركات القومية في سوريا ولبنان كانت جزءاً من سياق تاريخي معقد حيث تداخلت القضايا القومية مع الاستعمار، الطائفية، والهوية. البحث عن الجمهورية كان دائماً محوراً للصراع بين هذه الحركات، حيث كانت هناك رؤى متعددة ومتعارضة حول ما يعنيه مفهوم الدولة القومية والجمهورية في الشرق الأوسط.

رغم التحديات والانقسامات، فإن الطريق إلى الجمهورية في كلا البلدين كان مليئاً بالمحاولات لبناء هوية وطنية قوية ومستقلة. هذه المحاولات لم تنته بعد، حيث تستمر الأزمات السياسية والاجتماعية في صياغة مشهد الجمهورية والقومية في كل من سوريا ولبنان.

Related Post