Spread the love

في الوقت الذي تتصدر فيه قضايا المناخ أجندات القمم العالمية، يبقى تأثير التغيرات المناخية متفاوتاً بشكل كبير بين الدول والمجتمعات. بينما تمتلك الدول الغنية الموارد والتكنولوجيا اللازمة لحماية نفسها من الكوارث البيئية، فإن الدول الفقيرة والفئات المهمشة تتحمل العبء الأكبر، رغم أنها الأقل مساهمة في انبعاثات الغازات الدفيئة. هذه الفجوة العميقة في الأثر المناخي تطرح تساؤلات جوهرية حول العدالة المناخية، ومدى استعداد العالم لمواجهة التحديات البيئية بشكل عادل وشامل.

الفقراء على الخطوط الأمامية للأزمة المناخية

تشير تقارير “البنك الدولي” إلى أن أكثر من 100 مليون شخص قد ينزحون بحلول عام 2050 بسبب الكوارث البيئية الناتجة عن التغير المناخي، مثل الفيضانات والجفاف وارتفاع مستوى سطح البحر. هذه التأثيرات لا تحدث بشكل عشوائي، بل تضرب بشكل أقسى المجتمعات الأكثر فقراً، التي تعاني أصلاً من ضعف البنية التحتية ونقص الخدمات الأساسية.

في بنغلاديش، حيث يعتمد ملايين السكان على الزراعة كمصدر رئيسي للدخل، أدى ارتفاع مستوى البحر إلى تملح الأراضي الزراعية، مما جعلها غير صالحة للزراعة، ودفع آلاف المزارعين إلى الهجرة نحو المدن، حيث يواجهون ظروفاً معيشية أكثر قسوة. في إفريقيا، تفاقمت أزمات الجفاف في دول مثل الصومال والسودان، حيث أصبحت المجتمعات المحلية تعاني من نقص الغذاء والمياه، ما أدى إلى زيادة النزاعات على الموارد الطبيعية الشحيحة.

أما في العالم العربي، فتعد اليمن واحدة من أكثر الدول تضرراً من التغير المناخي، حيث أدى نقص الأمطار وارتفاع درجات الحرارة إلى تراجع الإنتاج الزراعي، مما زاد من حدة الأزمة الإنسانية في بلد يعاني أصلاً من الصراع والفقر. في مصر، يهدد ارتفاع مستوى البحر بإغراق أجزاء واسعة من دلتا النيل، مما قد يجبر مئات الآلاف على النزوح الداخلي.

يقول الدكتور سلمان المحمدي، أستاذ الجغرافيا البيئية بجامعة وهران، إن “التغير المناخي لم يعد مجرد مشكلة بيئية، بل أصبح قضية تنموية واجتماعية تؤثر بشكل مباشر على سبل العيش في الدول النامية”. ويؤكد أن “الفقراء هم الأكثر تضرراً لأنهم يعتمدون بشكل كبير على الزراعة التقليدية وصيد الأسماك، وهي قطاعات حساسة لأي تغيرات في المناخ”.

الدول الغنية تلوث… والفقراء يدفعون الثمن

رغم أن الدول النامية تتحمل العبء الأكبر من آثار التغير المناخي، إلا أنها ليست مسؤولة عن حدوثه. تشير تقارير “الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ” إلى أن الدول الصناعية الكبرى مسؤولة عن أكثر من 75% من إجمالي الانبعاثات الكربونية التاريخية، في حين أن الدول الفقيرة لا تسهم إلا بنسبة ضئيلة لا تتجاوز 5%. هذه الأرقام تبرز فجوة هائلة في المسؤولية البيئية، حيث تستفيد الدول الغنية من التنمية الصناعية بينما تتلقى الدول الفقيرة الضربة الأكبر من تداعياتها.

في الولايات المتحدة، التي تعد أكبر مصدر لانبعاثات الكربون في العالم بعد الصين، تستثمر الحكومة في مشاريع ضخمة لحماية السواحل من ارتفاع مستوى البحر، وبناء بنى تحتية مقاومة للكوارث الطبيعية. في المقابل، لا تمتلك دول مثل موزمبيق أو هاييتي موارد مالية كافية لحماية مجتمعاتها من الأعاصير والفيضانات، ما يؤدي إلى خسائر بشرية واقتصادية كارثية.

أما في أوروبا، فقد بدأت بعض الدول في تطبيق سياسات بيئية صارمة، مثل فرض ضرائب على الشركات التي تستهلك كميات كبيرة من الوقود الأحفوري، والاستثمار في الطاقة المتجددة. لكن هذه التدابير لم تمتد إلى الدول النامية، التي تظل غير قادرة على التحول إلى الاقتصاد الأخضر بسبب نقص التمويل والدعم التكنولوجي.

يؤكد الدكتور أكرم فنجال، الباحث في السياسات البيئية بجامعة تونس، أن “الدول الغنية مطالبة بتقديم تعويضات مالية للدول الفقيرة لمساعدتها على التكيف مع التغيرات المناخية”. ويرى أن “العدالة المناخية لا تعني فقط الحد من الانبعاثات، بل أيضاً ضمان أن تتحمل الدول الأكثر تلويثاً مسؤولية دعم المجتمعات التي تدفع الثمن الأكبر لهذه الأزمة”.

مع استمرار التغير المناخي في تدمير سبل العيش في العديد من الدول، بدأت موجات جديدة من النزوح البيئي بالظهور، حيث يضطر الناس إلى مغادرة مناطقهم بسبب الجفاف، أو الفيضانات، أو فقدان الأراضي الزراعية. وفقاً لتقرير صادر عن “المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين”، فإن عدد الأشخاص الذين أجبروا على مغادرة منازلهم بسبب الكوارث المناخية تجاوز 25 مليون شخص في عام 2022 وحده، ما يجعله أكبر سبب للهجرة القسرية على مستوى العالم.

في إفريقيا، تسببت موجات الجفاف في نزوح آلاف العائلات من منطقة الساحل باتجاه المدن الكبرى، حيث يواجهون ظروفاً معيشية صعبة، وارتفاع معدلات البطالة، وزيادة النزاعات على الموارد. في آسيا، أصبحت الفيضانات الموسمية في بنغلاديش والهند وباكستان تدفع أعداداً متزايدة من السكان إلى مغادرة قراهم والبحث عن مأوى في المناطق الحضرية المزدحمة.

أما في الشرق الأوسط، فقد بدأ تغير المناخ يلعب دوراً في تفاقم الصراعات، حيث أصبح شح المياه أحد العوامل التي تزيد من التوترات الاجتماعية والسياسية. في العراق، أدى انخفاض تدفق نهري دجلة والفرات إلى تقليل إنتاج الغذاء، مما ساهم في زيادة الهجرة الداخلية، وأثار توترات بين المجتمعات التي تتنافس على مصادر المياه الشحيحة.

يقول الدكتور جمال خيبري، الخبير في السياسات المناخية بجامعة صنعاء، إن “النزوح البيئي أصبح حقيقة لا يمكن تجاهلها، لكن المشكلة أن المجتمع الدولي لا يزال غير مستعد للتعامل معها. لا توجد حتى الآن قوانين واضحة تحمي حقوق النازحين البيئيين، ما يجعلهم عرضة للاستغلال والتهميش”.

على الرغم من التحديات الضخمة، لا تزال هناك بعض المبادرات التي تهدف إلى تحقيق العدالة المناخية. في قمة المناخ COP28، تم الاتفاق على إنشاء “صندوق الخسائر والأضرار”، الذي يهدف إلى تقديم تعويضات للدول النامية لمساعدتها في التعامل مع آثار التغير المناخي. ومع ذلك، فإن التمويل المخصص لهذا الصندوق لا يزال محدوداً مقارنة بحجم المشكلة.

في بعض الدول، بدأت مشاريع محلية لمساعدة المجتمعات الأكثر تضرراً على التكيف مع التغير المناخي. في المغرب، يتم تطوير مشاريع للزراعة المقاومة للجفاف، تعتمد على تقنيات حديثة مثل الري الذكي، بينما تعمل مصر على مشروعات لإعادة تأهيل المناطق الساحلية المهددة بالغرق. لكن هذه الجهود لا تزال فردية، ولا ترتقي إلى مستوى الحلول الشاملة المطلوبة لمواجهة الأزمة.

يؤكد الدكتور وليد عبد الله، الباحث في التنمية المستدامة بجامعة أم القرى، أن “تحقيق العدالة المناخية يتطلب التزاماً حقيقياً من الدول الغنية، سواء من خلال تقديم تعويضات مالية، أو نقل التكنولوجيا النظيفة للدول الفقيرة، أو تقليل استهلاكها للموارد التي تؤثر على المناخ العالمي”.

يبقى السؤال الأهم: هل يمكن تحقيق عدالة مناخية حقيقية في عالم تتحكم فيه المصالح الاقتصادية والسياسية؟ رغم أن الحلول موجودة، إلا أن تطبيقها يتطلب إرادة دولية قوية، واستعداداً لتقديم تنازلات حقيقية من الدول الأكثر تلويثاً. في الوقت الحالي، يبدو أن الفجوة بين الأغنياء والفقراء في مواجهة التغير المناخي مستمرة في الاتساع، مما يضع العالم أمام خيارين: إما التصرف الآن بشكل عادل وشامل، أو مواجهة مستقبل سيكون فيه الفقراء هم أول من يدفع الثمن، لكن لن يكونوا الأخيرين.

error: Content is protected !!