Spread the love

هل كانت وسائل التواصل الاجتماعي فرصة لتمكين النساء وإيصال أصواتهن، أم أنها أصبحت ساحة جديدة لممارسة القمع ضدهن؟ لماذا تواجه الناشطات النسويات وكاتبات المحتوى هجمات إلكترونية ممنهجة؟ كيف يمكن لغياب التشريعات الحقيقية أن يجعل العنف الرقمي ضد النساء أكثر خطورة من العنف الجسدي؟ ولماذا لا تزال المجتمعات العربية تتعامل مع التحرش والتهديدات الإلكترونية على أنها مجرد “مضايقات عابرة”، بدلًا من الاعتراف بها كجرائم تهدد سلامة النساء وأمانهن الشخصي؟

رغم أن الإنترنت كان يُنظر إليه في بداياته على أنه فضاء ديمقراطي يتيح للجميع التعبير عن آرائهم بحرية، إلا أن الواقع أثبت أن النساء يواجهن عقبات مختلفة تمامًا عن الرجال في هذه المساحات. النساء الناشطات، خاصة اللواتي يتحدثن عن قضايا الجندر والحقوق، يتعرضن لحملات تحريض، وتنمر رقمي، وتهديدات مباشرة، تصل في بعض الحالات إلى الابتزاز والاعتداء الجسدي بسبب ما يكتبنه أو ينشرنه.

تقرير صادر عن هيئة الأمم المتحدة للمرأة عام 2023 كشف أن 65% من النساء الناشطات في العالم العربي تعرضن لشكل من أشكال العنف الرقمي، سواء كان تحرشًا، أو تهديدًا، أو ابتزازًا، أو حملات تشويه سمعة. في بعض الدول، تصل التهديدات الرقمية إلى العنف الحقيقي، حيث يتم تتبع النساء من خلال حساباتهن على مواقع التواصل الاجتماعي، مما يعرضهن لخطر الاعتداء أو حتى القتل.

الصحفية الفلسطينية رانيا عدنان، التي تعرضت لحملة تحريض إلكترونية بعد نشرها تحقيقًا حول العنف ضد النساء، ترى أن المشكلة لا تكمن فقط في العنف الرقمي بحد ذاته، بل في أن المجتمع لا يعترف به كعنف حقيقي. النساء اللواتي يشتكين من المضايقات الرقمية يتم اتهامهن بالمبالغة أو بتحريض المتابعين عليهن، بينما يظلّ المتحرشون الإلكترونيون أحرارًا دون أي محاسبة.

كيف يتحول الإنترنت إلى أداة قمع ممنهج؟

لا يقتصر العنف الرقمي على المضايقات الشخصية، بل يتحول في كثير من الأحيان إلى أداة سياسية وأيديولوجية تُستخدم لإسكات النساء في المجال العام. الناشطات النسويات والصحفيات اللواتي يعملن على قضايا حقوق المرأة يواجهن حملات تحريض ممنهجة، حيث يتم استهدافهن بشكل منظم من قبل جهات سياسية أو جماعات محافظة ترى في خطابهن تهديدًا لـ”النظام الاجتماعي القائم”.

في مصر، تم اعتقال عدد من الشابات بتهم مثل “الإخلال بالآداب العامة” و”إثارة الفجور”، فقط لأنهن نشرن محتوى رقميًا يتناول قضايا الجندر والحرية الشخصية. في تونس، تعرضت بعض الناشطات للتهديد بنشر صورهن الخاصة بعد مشاركتهن في حملات مناهضة للتحرش. في العراق، واجهت الناشطات النسويات حملة إلكترونية اتهمتهن بالعمالة والخيانة، فقط لأنهن طالبن بتعديلات على قوانين الأحوال الشخصية.

تقول الباحثة اللبنانية ليلى منصور، المختصة في قضايا الإعلام الرقمي، إن الهجمات الإلكترونية على النساء ليست عشوائية، بل هي امتداد للبنية الذكورية التي ترى في الإنترنت ساحة جديدة لإعادة إنتاج السيطرة على المرأة. العنف الرقمي ليس مجرد “تنمر”، بل هو سلاح يُستخدم لإخضاع النساء، وإجبارهن على الصمت، وإبقائهن تحت الرقابة الاجتماعية حتى في الفضاءات الافتراضية.

واحدة من أخطر أشكال العنف الرقمي ضد النساء هي جرائم التشهير والابتزاز الإلكتروني، حيث يتم استخدام الصور الشخصية أو البيانات الخاصة كسلاح ضد النساء لإجبارهن على الصمت أو الخضوع لمطالب مالية أو جنسية. في بعض الحالات، يتم اختراق حسابات النساء، ونشر معلوماتهن الخاصة بهدف الإضرار بسمعتهن أو تهديد حياتهن المهنية والعائلية.

في المغرب، كشفت دراسة محلية أن 40% من النساء تعرضن لنوع من أنواع الابتزاز الإلكتروني، لكن الغالبية العظمى لم يقمن بتقديم شكاوى رسمية خوفًا من الفضيحة أو من عدم جدية السلطات في التعامل مع القضية. في السعودية، رغم وجود قوانين تجرّم الابتزاز، إلا أن بعض الضحايا لا يملكن الشجاعة للإبلاغ عن هذه الجرائم بسبب الخوف من العقوبات الاجتماعية. في الأردن، أبلغت العديد من النساء عن تعرضهن للتشهير الرقمي بعد إنهاء علاقات عاطفية، حيث يتم استخدام صورهن الخاصة كأداة للانتقام منهن.

توضح المحامية المصرية مها الشيمي، المتخصصة في الجرائم الإلكترونية، أن التشهير والابتزاز الرقمي يمثلان أحد أخطر أشكال العنف ضد النساء، لأن الضحايا غالبًا ما يجدن أنفسهن محاصرات بين خيارين: إما السكوت والخضوع للتهديدات، أو المخاطرة بتدمير سمعتهن إذا قررن التبليغ. المشكلة الأكبر هي أن بعض القوانين في الدول العربية لا تزال تحمل النساء مسؤولية التعرض للابتزاز، حيث يتم لوم الضحية بدلًا من ملاحقة الجاني.

هل القوانين كافية لحماية النساء من العنف الرقمي؟

رغم أن بعض الدول العربية بدأت في إدخال قوانين لمكافحة الجرائم الإلكترونية، إلا أن التطبيق لا يزال غير فعال، حيث تواجه النساء صعوبة في تقديم الشكاوى، كما أن المؤسسات الأمنية والقضائية لا تتعامل مع العنف الرقمي بجدية كافية.

في بعض الدول، تُعامل قضايا العنف الرقمي على أنها “قضايا أخلاقية”، حيث يتم التركيز على سلوك الضحية بدلًا من معاقبة الجاني. في العراق، يتم تجاهل الكثير من قضايا التحرش الإلكتروني، حيث ترى السلطات أنها ليست ذات أولوية مقارنة بالجرائم التقليدية. في لبنان، رغم وجود قوانين لمكافحة الجرائم الإلكترونية، فإن الضحايا يواجهن صعوبات في إثبات الجرائم بسبب غياب آليات تحقيق متطورة.

تقول الخبيرة القانونية الأردنية هدى الناصر إن الحل لا يكمن فقط في إصدار قوانين، بل في ضمان وجود آليات واضحة لحماية النساء، مثل إنشاء وحدات متخصصة في الشرطة للتعامل مع العنف الرقمي، وتسهيل إجراءات الإبلاغ، وتوفير حماية قانونية للضحايا حتى لا يتعرضن للانتقام من الجناة.

مكافحة العنف الرقمي تحتاج إلى استراتيجيات متعددة، تشمل تطوير القوانين، وزيادة التوعية بحقوق النساء في الفضاء الرقمي، وتشجيع النساء على التبليغ عن الجرائم الإلكترونية دون خوف. يجب أن تتبنى المؤسسات الإعلامية ومنصات التواصل الاجتماعي سياسات أكثر صرامة لحماية النساء من المضايقات، كما يجب تعزيز دور المنظمات النسوية في تقديم الدعم القانوني والنفسي للضحايا.

الخبير في الأمن الرقمي التونسي كريم السالمي يرى أن تعزيز الأمن الرقمي للنساء يمكن أن يكون أحد الحلول الفعالة، حيث يجب تدريب النساء على كيفية تأمين حساباتهن، واستخدام الأدوات التي تحمي بياناتهن من الاختراق، والتعامل مع التهديدات الإلكترونية بوعي قانوني وتكنولوجي.

رغم أن العنف الرقمي أصبح واقعًا يوميًا للنساء في العالم العربي، إلا أن مواجهته ليست مستحيلة. التغيير يتطلب اعترافًا مجتمعيًا وقانونيًا بأن العنف الرقمي هو امتداد للعنف الجندري، وليس مجرد مضايقات عابرة.

السؤال الذي يظل مطروحًا: هل سيتم التعامل مع العنف الرقمي بجدية كجريمة حقيقية، أم أن النساء سيبقين محاصرات في فضاء إلكتروني لا يرحم؟

error: Content is protected !!