هل يكفي تغيير القوانين للحد من العنف القائم على النوع الاجتماعي، أم أن المشكلة أعمق من ذلك؟ لماذا تستمر النساء في دفع ثمن البنى الذكورية، حتى في المجتمعات التي تدّعي التقدم والانفتاح؟ إلى أي مدى يمكن القول إن العنف ضد المرأة هو أزمة ثقافية واجتماعية قبل أن يكون مجرد خلل قانوني؟
رغم الجهود القانونية والتوعوية التي بُذلت في العقود الأخيرة، لا تزال الأرقام تكشف عن صورة قاتمة لوضع النساء في العالم العربي. تقرير صادر عن منظمة الأمم المتحدة للمرأة عام 2023 يشير إلى أن نحو 37% من النساء العربيات تعرضن لشكل من أشكال العنف الجسدي أو النفسي في حياتهن، وهي نسبة تُعدّ من بين الأعلى عالميًا. في بعض الدول، تصل النسبة إلى أكثر من 50%، خاصة في المناطق التي تعاني من النزاعات المسلحة أو الاضطرابات السياسية.
تُظهر إحصائيات البنك الدولي أن العنف الأسري يُعدّ الشكل الأكثر شيوعًا للعنف ضد المرأة، حيث تعاني النساء من الانتهاكات داخل منازلهن، في ظل غياب سياسات فعالة للحماية أو بيئات اجتماعية تدعم الناجيات. هذه الأرقام لا تعكس سوى جزء من الحقيقة، إذ أن كثيرًا من حالات العنف لا يتم التبليغ عنها بسبب الخوف من الوصمة الاجتماعية أو انعدام الثقة في المؤسسات القانونية.
العنف القانوني والتشريعي: حين يصبح القانون جزءًا من المشكلة
إلى جانب العنف المادي، تعاني النساء في العديد من الدول العربية من عنف قانوني متجذر، حيث تُحرم من حقوقهن الأساسية بموجب قوانين الأحوال الشخصية والتشريعات التي لا تزال تمنح الرجل سلطة أكبر داخل الأسرة والمجتمع. في بعض الدول، لا يزال المغتصب قادرًا على الإفلات من العقاب عبر الزواج من الضحية، كما هو الحال في بعض القوانين التي تم تعديلها جزئيًا ولكن لا تزال آثارها الاجتماعية قائمة.
المحامية اللبنانية منى الخطيب، المتخصصة في قضايا حقوق المرأة، تشير إلى أن “التشريعات العربية لا تزال عاجزة عن تقديم حماية حقيقية للنساء. حتى عندما يتم تعديل القوانين، يظل التطبيق بطيئًا ومترددًا، بسبب العقلية الذكورية المترسخة في الأجهزة القضائية والأمنية”.
في المقابل، هناك دول قامت بإصلاحات قانونية مهمة، مثل تونس التي ألغت قانون زواج المغتصب من الضحية، والمغرب الذي أدخل تعديلات على قوانين العنف الأسري، لكن هذه التعديلات تواجه عقبات في التنفيذ بسبب استمرار العادات المجتمعية المناهضة لأي تغيير.
في المناطق التي تشهد نزاعات مسلحة، يصبح العنف ضد النساء أكثر وحشية. النساء في سوريا، العراق، اليمن، وليبيا تعرضن لانتهاكات جسيمة خلال الحروب، حيث تم استخدام العنف الجنسي كأداة حرب لترهيب المجتمعات وإخضاعها. تقرير صادر عن منظمة العفو الدولية عام 2022 وثّق حالات واسعة من العنف الجنسي الذي مارسته الميليشيات والجماعات المسلحة بحق النساء في مناطق النزاع، وسط غياب شبه كامل للمساءلة.
الناشطة العراقية هبة العزاوي، المختصة في قضايا العنف الجنسي في النزاعات، تقول إن “الحروب في المنطقة لم تدمّر البنية التحتية فقط، بل دمرت حياة النساء اللواتي أصبحن أهدافًا سهلة للعنف والاستغلال. المشكلة لا تتوقف عند انتهاء النزاعات، بل تمتد إلى مرحلة ما بعد الحرب، حيث تواجه الناجيات وصمة اجتماعية تجعل من الصعب عليهن العودة إلى الحياة الطبيعية”.
العنف الإلكتروني.. ساحة جديدة للقمع؟
مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، انتقل العنف القائم على النوع الاجتماعي إلى الفضاء الرقمي. النساء الناشطات في المجال العام أو اللواتي يعبّرن عن آرائهن يواجهن موجات من التحرش الإلكتروني والتهديدات بالقتل والاغتصاب، مما يؤدي إلى تراجع مشاركة النساء في الفضاء العام.
دراسة صادرة عن هيئة الأمم المتحدة للمرأة عام 2021 كشفت أن 72% من النساء العربيات الناشطات على الإنترنت تعرضن لنوع من أنواع العنف الإلكتروني، سواء من خلال التهديدات المباشرة، أو نشر معلومات شخصية بهدف التشهير بهن، أو استخدام خطاب الكراهية لإسكاتهن.
الصحفية المصرية رُبى ناصيف، التي تعرضت لحملة تحريض واسعة على وسائل التواصل الاجتماعي بعد تغطيتها لموضوعات نسوية، تؤكد أن “وسائل التواصل الاجتماعي منحت النساء مساحة للتعبير، لكنها في الوقت نفسه أصبحت ساحة للقمع الرقمي. العنف الإلكتروني لا يقل خطورة عن العنف الواقعي، لأنه يهدف إلى إسكات النساء وترويعهن، مما يؤدي في كثير من الحالات إلى تراجعهن عن المشاركة العامة”.
على الرغم من وجود قوانين تحظر العنف ضد المرأة في عدد من الدول العربية، إلا أن المشكلة تكمن في التنفيذ، الذي يظل خاضعًا لعوامل اجتماعية وقانونية معقدة. ضعف الإرادة السياسية، وانتشار ثقافة الإفلات من العقاب، والتأثير القوي للعادات والتقاليد، كلها عوامل تُساهم في استمرار الظاهرة.
التعليم يُعدّ أحد المفاتيح الأساسية لتغيير هذه المعادلة. المجتمعات التي استثمرت في تعليم النساء ونشر ثقافة المساواة، مثل بعض دول شمال إفريقيا، شهدت تراجعًا تدريجيًا في نسب العنف ضد المرأة. لكن في الدول التي لا تزال تعتبر المرأة كائنًا تابعًا للرجل، يظل التغيير بطيئًا ومحدودًا.
الإعلام أيضًا يلعب دورًا في تكريس الصور النمطية حول النساء، حيث أن الأفلام والمسلسلات في كثير من الأحيان تساهم في تعزيز مشروعية العنف الأسري، من خلال تصوير المرأة على أنها ضعيفة وتابعة، أو من خلال تطبيع ثقافة الهيمنة الذكورية.
في ظل التغيرات العالمية المتسارعة، أصبح العنف القائم على النوع الاجتماعي قضية لا يمكن إنكارها أو تجاهلها. المجتمعات العربية اليوم أمام اختبار حقيقي: إما أن تُقرر مواجهة هذه الظاهرة بجدية، عبر إصلاحات قانونية وتعليمية وإعلامية، أو أن تستمر في التعامل معها كمشكلة ثانوية لا تستحق الاهتمام الكافي.
يقول عالم الاجتماع المغربي جمال الإدريسي، المتخصص في دراسات العنف المجتمعي، إن “مشكلة العنف ضد النساء ليست مجرد قضية فردية، بل انعكاس لبنية اجتماعية كاملة تقوم على الهيمنة الذكورية. إذا لم يتم تفكيك هذه البنية عبر التعليم والتشريعات وتغيير الخطاب العام، فإن العنف سيظل مستمرًا، حتى لو تغيرت أشكاله”.
الأسئلة التي تظل مطروحة اليوم: هل يمكن أن نشهد تغييرًا جذريًا في تعامل المجتمعات العربية مع العنف ضد المرأة؟ أم أن كل ما يحدث ليس سوى إصلاحات شكلية لا تمس جذور المشكلة؟