لماذا لا تزال النساء يشكلن نسبة ضئيلة من الباحثين في العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات في العالم العربي؟ هل تواجه الباحثات عوائق خفية تمنعهن من التقدم في المجالات العلمية؟ كيف تؤثر الفجوة الجندرية على تطور البحث العلمي، وما دور السياسات الأكاديمية في تعزيز مشاركة النساء في الابتكار والتكنولوجيا؟ وهل يمكن الحديث عن نهضة علمية حقيقية في ظل استمرار التمييز الجندري في المؤسسات الأكاديمية؟
رغم أن نسبة الطالبات الجامعيات في العالم العربي تفوق نسبة الطلاب الذكور في العديد من التخصصات، إلا أن تمثيل النساء في مجالات البحث العلمي لا يزال محدودًا. تقرير صادر عن منظمة اليونسكو عام 2023 أشار إلى أن النساء يشكلن حوالي 35% فقط من الباحثين في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات في المنطقة العربية، مقارنة بنسبة 55% في التخصصات الأدبية والاجتماعية.
في بعض الدول، مثل المغرب وتونس، تمكنت بعض النساء من تحقيق نجاحات في البحث العلمي، لكنهن لا يزلن يواجهن تحديات كبيرة عند محاولة الوصول إلى المناصب القيادية في الجامعات أو المعاهد البحثية. في مصر، رغم ارتفاع نسبة النساء في الجامعات، إلا أن عدد الأستاذات الجامعيات المتفرغات للبحث العلمي لا يتجاوز 20%، حيث تُفرض عليهن أدوار تدريسية وإدارية تقلل من فرصهن في إجراء أبحاث مستقلة. في السعودية، ورغم الإصلاحات التي سمحت للنساء بالدخول إلى مجالات جديدة، لا تزال نسبة الباحثات في التخصصات الهندسية والتكنولوجية منخفضة مقارنة بالرجال.
تقول العالمة الجزائرية سعاد بلخضر، المتخصصة في علوم الفيزياء، إن المشكلة لا تتعلق فقط بعدد النساء في البحث العلمي، بل في طبيعة الفرص المتاحة لهن. العديد من الباحثات يواجهن صعوبات في الحصول على تمويل لمشاريعهن العلمية، كما أن الكثير من الجامعات والمراكز البحثية لا توفر بيئة مناسبة لدعم النساء في تطوير مسيرتهن العلمية، مما يدفع بعضهن إلى ترك المجال أو البحث عن فرص في الخارج.
العوائق التي تمنع النساء من التقدم في البحث العلمي
إلى جانب التحديات الأكاديمية، تواجه النساء الباحثات عقبات اجتماعية وثقافية تحدّ من قدرتهن على المنافسة في المجالات العلمية. في بعض المجتمعات، لا تزال الأسرة تُشجع النساء على اختيار مجالات “آمنة” مثل التدريس أو الإدارة، بدلاً من دخول التخصصات العلمية التي تتطلب ساعات عمل طويلة، وسفرًا متكررًا، وتحديات مهنية قد لا تتناسب مع الأدوار الاجتماعية المفروضة عليهن.
في العراق، تواجه الباحثات صعوبة في التوفيق بين متطلبات البحث العلمي والواجبات الأسرية، حيث يُتوقع منهن أداء أدوارهن التقليدية داخل المنزل، حتى عندما يكنّ مسؤولات عن مشاريع بحثية معقدة. في لبنان، تشير بعض الدراسات إلى أن النساء اللواتي يتقدمن لمناصب أكاديمية عليا يُواجهن معايير أعلى من الرجال، حيث يتم تقييمهن بناءً على التزامهن بالعمل الأكاديمي والأسري في آنٍ واحد، مما يجعل وصولهن إلى مناصب قيادية أمرًا أكثر تعقيدًا.
توضح الباحثة الأردنية ليلى نوفل، المتخصصة في علم الأحياء، أن التحيز الجندري في المؤسسات البحثية ليس دائمًا مباشرًا، بل غالبًا ما يكون خفيًا ويظهر في طرق تقييم الأبحاث، ومنح التمويل، وتوزيع الفرص. في العديد من الحالات، يتم تفضيل الرجال على النساء عند تقديم المنح البحثية، بحجة أن الرجال أكثر قدرة على العمل في البيئات البحثية الصعبة أو السفر لحضور المؤتمرات العلمية، مما يضع الباحثات في موقف غير متكافئ منذ البداية.
رغم أن بعض الجامعات والمراكز البحثية في العالم العربي بدأت في تبني سياسات لدعم النساء في البحث العلمي، إلا أن هذه الجهود لا تزال غير كافية لسد الفجوة الجندرية. في بعض الدول، مثل الإمارات وقطر، تم إطلاق مبادرات لدعم الباحثات، مثل توفير منح دراسية خاصة للنساء في مجالات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، لكن هذه السياسات لم تُترجم بعد إلى زيادة حقيقية في عدد النساء في المناصب البحثية القيادية.
في المقابل، لا تزال بعض الدول الأخرى تفتقر إلى سياسات واضحة لدعم النساء في البحث العلمي. في السودان، تواجه الباحثات تحديات مضاعفة بسبب نقص التمويل والاضطرابات السياسية التي تعرقل تطور المؤسسات البحثية. في اليمن، أدى الوضع الأمني إلى تراجع كبير في عدد النساء اللواتي يواصلن دراساتهن العليا، حيث بات من الصعب عليهن السفر أو الحصول على دعم مالي لأبحاثهن.
تقول الخبيرة القانونية التونسية أمل الزواوي، التي تعمل في مجال السياسات التعليمية، إن غياب سياسات واضحة لدعم الباحثات يجعل من الصعب تحقيق تكافؤ حقيقي في الفرص. الحل لا يكمن فقط في زيادة عدد النساء في الجامعات، بل في توفير بيئة بحثية تدعمهن من خلال منح تمويلات خاصة، وتسهيل مشاركتهن في المؤتمرات العلمية، وضمان أن يتم تقييم أبحاثهن بناءً على الكفاءة وليس بناءً على التحيز الجندري.
أثر الفجوة الجندرية على تقدم البحث العلمي
استبعاد النساء من البحث العلمي لا يؤثر فقط على مسيرتهن الشخصية، بل ينعكس أيضًا على جودة وتنوع الأبحاث العلمية نفسها. الأبحاث التي تُجرى في بيئات ذكورية تميل إلى إهمال القضايا المتعلقة بالنساء، سواء في الطب أو الهندسة أو التكنولوجيا. على سبيل المثال، تم تجاهل الفروق الجسدية بين الرجال والنساء في العديد من الأبحاث الطبية، مما أدى إلى تطوير أدوية وعلاجات لا تناسب النساء بنفس الفعالية التي تناسب الرجال.
في مجالات الذكاء الاصطناعي، أدى نقص النساء في فرق البحث والتطوير إلى تصميم خوارزميات غير محايدة جندريًا، حيث أظهرت بعض الدراسات أن أنظمة الذكاء الاصطناعي التي تعتمد على بيانات غير متوازنة تميل إلى تفضيل الرجال في التوظيف والتقييمات الأكاديمية. في مجالات الهندسة والبيئة، يتم أحيانًا إهمال احتياجات النساء في تصميم المشاريع والبنية التحتية، لأن الفرق البحثية التي تقود هذه المشاريع تفتقر إلى التنوع الجندري.
الخبيرة في علوم التكنولوجيا المصرية نادية الخطيب تؤكد أن البحث العلمي يحتاج إلى تنوع في وجهات النظر والخبرات، وأن استبعاد النساء يعني خسارة نصف الإمكانيات البشرية التي يمكن أن تساهم في تطوير العلوم. عندما يكون هناك تنوع في الفرق البحثية، تكون الأبحاث أكثر شمولية، وأكثر قدرة على حل المشكلات التي تؤثر على جميع فئات المجتمع.
إغلاق الفجوة الجندرية في البحث العلمي يتطلب تغييرات جذرية في السياسات الأكاديمية والمجتمعية، بحيث يتم توفير بيئة أكثر دعمًا للباحثات، وتقديم حوافز لجذب النساء إلى التخصصات العلمية، وضمان أن تكون معايير التقييم والتوظيف متساوية بين الجنسين.
يجب أن تتبنى الجامعات والمراكز البحثية برامج تمويل خاصة للباحثات، بحيث يحصلن على فرص متكافئة لتمويل مشاريعهن. كما يجب تحسين بيئة العمل الأكاديمية بحيث توفر دعمًا للنساء اللواتي يرغبن في التوفيق بين حياتهن المهنية والأسرية.
يقول الخبير الأكاديمي السعودي فارس الشهري، المتخصص في تطوير التعليم العالي، إن سد الفجوة الجندرية في البحث العلمي ليس مجرد قضية مساواة، بل هو ضرورة لتحقيق تقدم علمي حقيقي. بدون مشاركة متساوية للنساء في البحث العلمي، ستظل المعرفة العلمية ناقصة، وستظل العلوم منحازة إلى رؤية ذكورية غير شاملة لجميع فئات المجتمع.
رغم أن النساء أثبتن كفاءتهن في جميع المجالات العلمية، إلا أن العقبات الاجتماعية والأكاديمية لا تزال تمنعهن من الوصول إلى مناصب قيادية في البحث العلمي. التغيير يحتاج إلى سياسات أكثر شمولًا، ومؤسسات أكاديمية تدعم التنوع الجندري، ومجتمع يعترف بأن التقدم العلمي لا يمكن أن يتحقق بدون مشاركة كاملة ومتساوية للنساء.
السؤال الذي يبقى مفتوحًا: هل يمكن أن نشهد في المستقبل القريب تحولات حقيقية تتيح للنساء أخذ مكانهن الطبيعي في البحث العلمي، أم أن الفجوة الجندرية ستظل قائمة، مما يجعل التقدم العلمي نفسه ناقصًا وغير شامل؟