رغم التقدم الكبير في العلوم الطبية، لا تزال الفجوة الجندرية في الرعاية الصحية تلقي بظلالها على صحة النساء، حيث تعاني الأبحاث الطبية، والبروتوكولات العلاجية، والممارسات الصحية من تحيزات قائمة على النوع الاجتماعي. في كثير من الحالات، يتم تجاهل الأعراض التي تعاني منها النساء، أو يُقلل من شأنها، أو يتم تشخيصها بشكل خاطئ، مما يعكس إشكالية أعمق تتعلق بكون الطب لا يزال منحازًا إلى التجربة الذكورية. فهل تؤثر هذه الفجوة على جودة الرعاية الصحية التي تحصل عليها النساء؟
لطالما استندت التجارب السريرية والأبحاث الطبية إلى نموذج الرجل كمعيار أساسي في دراسة الأمراض وتطوير العلاجات، وهو ما أدى إلى إغفال الفروقات البيولوجية والجندرية في كيفية تأثير الأمراض والعلاجات على النساء. فعلى سبيل المثال، ظلت أمراض القلب تُعرف تاريخيًا بأنها “أمراض رجالية”، رغم أن النساء أكثر عرضة لبعض أنواع النوبات القلبية، وغالبًا ما يتم تشخيصهن بشكل متأخر لأن الأعراض لديهن تختلف عن الرجال.
تشير الباحثة اللبنانية نادية حداد، المتخصصة في الصحة العامة والجندر، إلى أن “الطب الحديث لا يزال يعاني من تحيز واضح ضد النساء، حيث يتم التعامل مع الأعراض التي تعاني منها المرأة كحالات نفسية أكثر منها عضوية، مما يؤدي إلى تأخير التشخيص، وبالتالي تقليل فرص العلاج الفعال.”
وتضيف أن “الأبحاث الطبية نادرًا ما تركز على كيفية تأثير العلاجات على النساء، مما يجعل العديد من الأدوية غير مناسبة لهن، أو تؤدي إلى آثار جانبية غير مدروسة بشكل كافٍ.”
كيف تتجلى الفجوة الجندرية في التشخيص والعلاج؟
يمكن ملاحظة الفجوة الجندرية في الطب من خلال عدة أمثلة واضحة، منها:
أمراض القلب: تعاني النساء من أعراض مختلفة عن الرجال عند الإصابة بالنوبات القلبية، مثل التعب والغثيان وألم في الظهر، لكن نظرًا لأن الدراسات استندت إلى الأعراض الذكورية التقليدية (ألم الصدر وضيق التنفس)، يتم تشخيص النساء بشكل متأخر أو خاطئ.
الألم المزمن: تعاني النساء من أمراض الألم المزمن مثل الألم العضلي الليفي والصداع النصفي بمعدلات أعلى من الرجال، لكن يتم في كثير من الأحيان التقليل من شكواهن، واعتبارها ناتجة عن “الحالة النفسية” بدلًا من كونها مشكلة طبية حقيقية.
الأدوية والتجارب السريرية: حتى وقت قريب، كانت معظم الأدوية تُختبر على الرجال فقط، مما أدى إلى تجاهل كيفية تأثيرها على أجساد النساء. بعض الأدوية التي يتم وصفها عالميًا، مثل أدوية ضغط الدم أو مضادات الاكتئاب، قد يكون لها آثار جانبية أكثر حدة على النساء بسبب الاختلافات الفسيولوجية بين الجنسين.
يؤكد الباحث المصري أحمد الزيات، المختص في البيولوجيا الطبية، أن “معظم الأدوية والعلاجات الطبية تم تطويرها بناءً على أبحاث تركز على الذكور، مما يؤدي إلى تباينات خطيرة في كيفية استجابة النساء للعلاج. على سبيل المثال، هناك بعض الأدوية التي تؤثر على هرمونات النساء بشكل مختلف، لكن لم يتم أخذ هذه العوامل في الاعتبار عند تطويرها.”
الأمراض النسائية: هل يتم التقليل من أهميتها؟
إلى جانب التحيز الجندري في علاج الأمراض العامة، تعاني الأمراض النسائية من نقص كبير في التمويل والبحث العلمي. على سبيل المثال، لا يزال مرض التهاب بطانة الرحم، الذي يصيب ملايين النساء حول العالم، يعاني من نقص التمويل في الأبحاث الطبية مقارنة بأمراض الذكور مثل تضخم البروستاتا، رغم أن تأثيره على الحياة اليومية للمرأة أشد بكثير.
تشير نادية حداد إلى أن “الأمراض التي تؤثر على النساء بشكل خاص، مثل متلازمة تكيس المبايض أو آلام الدورة الشهرية الشديدة، يتم التقليل من شأنها طبيًا، حيث يتم إخبار النساء بأن هذه الأمور ‘طبيعية’، بدلًا من السعي لفهم أسبابها وعلاجها بشكل علمي دقيق.”
وتضيف أن “هناك تجاهلًا واضحًا للبحث في بعض القضايا الصحية النسائية، مما يجعل العديد من النساء يعانين بصمت دون الحصول على رعاية طبية مناسبة.”
تُظهر الأبحاث أن النساء أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب، والقلق، واضطرابات ما بعد الصدمة، لكنهن في الوقت نفسه أكثر عرضة لتلقي علاجات دوائية دون متابعة حقيقية، مما يعكس مشكلة في كيفية تعامل الأنظمة الصحية مع الصحة النفسية للمرأة.
يقول أحمد الزيات إن “الصحة النفسية للنساء يتم التعامل معها في كثير من الأحيان بطريقة سطحية، حيث يتم وصف الأدوية دون البحث في الأسباب الجذرية للمشكلة. في بعض الحالات، يتم ربط الأعراض التي تعاني منها المرأة بحالتها العاطفية بدلًا من النظر إليها كمسألة طبية حقيقية.”
كيف يمكن سد الفجوة الجندرية في الطب؟
لمعالجة هذه الفجوة، يجب اتخاذ عدة خطوات، منها:
إعادة تصميم التجارب السريرية بحيث تشمل عددًا كافيًا من النساء لضمان أن الأدوية والعلاجات تأخذ الفروقات البيولوجية بين الجنسين في الاعتبار.
تعزيز الأبحاث حول الأمراض النسائية، وزيادة تمويل الدراسات التي تركز على صحة المرأة.
تدريب الأطباء على التحيز الجندري في التشخيص والعلاج، بحيث لا يتم التقليل من شكاوى النساء الطبية، أو اعتبارها مشكلات نفسية دون بحث كافٍ.
تمكين النساء في مجال الطب والبحث العلمي، لضمان وجود منظور نسائي في القرارات الطبية والبحثية.
رغم التقدم الكبير في الطب، لا تزال الفجوة الجندرية في الرعاية الصحية قائمة، مما يؤدي إلى تأخير التشخيص، وتقديم علاجات غير مناسبة، وإهمال القضايا الصحية الخاصة بالنساء. إن سد هذه الفجوة ليس مجرد مسألة علمية، بل هو جزء من تحقيق العدالة الصحية، بحيث يحصل الجميع على رعاية طبية متساوية دون تحيز أو تمييز.
ويبقى السؤال: هل ستشهد العقود القادمة تطورًا في مجال الطب يأخذ في الاعتبار الفروقات الجندرية، أم أن النساء سيبقين ضحايا لنظام صحي مصمم بالأساس لخدمة التجربة الذكورية؟