الخميس. أكتوبر 17th, 2024

الفلسفة والسياسة.. هل يمكن تحقيق العدالة في عالم غير عادل؟

منذ القِدم، انشغلت الفلسفة السياسية بمسألة العدالة، ورغم الجهود الفلسفية الكبيرة لوضع مبادئ تحقق التوازن بين حقوق الأفراد وواجباتهم تجاه المجتمع، لا يزال سؤال العدالة في عالم مليء بالتفاوتات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية قائمًا. هل يمكن حقًا تحقيق العدالة في عالم يبدو غير عادل؟ وهل العدالة مسألة قابلة للتحقيق في ظل الأنظمة العالمية التي تتأثر بالقوة، المال، والنفوذ؟

العدالة من أفلاطون إلى راولز

تاريخيًا، تصدرت مسألة العدالة الفكر الفلسفي. أفلاطون، في كتابه “الجمهورية”، وضع تصورًا للمجتمع العادل حيث يلعب كل فرد دوره بناءً على قدراته الفطرية. العدالة عند أفلاطون هي التوازن بين مكونات المجتمع المختلفة لتحقيق السعادة العامة. رغم أن رؤيته قد تبدو مثالية، إلا أنها فتحت النقاش حول دور المؤسسات في تحقيق العدالة.

انتقل النقاش في العصور الحديثة إلى نظريات أكثر تعقيدًا مثل “العدالة كإنصاف” التي طرحها جون راولز. راولز يرى أن العدالة يمكن تحقيقها إذا ما تم تنظيم المجتمع وفقًا لمبدأين أساسيين: المساواة في الحقوق الأساسية وتكافؤ الفرص، بالإضافة إلى مبدأ توزيع المنافع الاقتصادية والاجتماعية بما يفيد الفئات الأقل حظًا. من خلال ما يسمى “ستار الجهل”، يقترح راولز أن الأشخاص يجب أن يختاروا مبادئ العدالة وكأنهم لا يعرفون موقعهم المستقبلي في المجتمع، مما يعزز فكرة العدالة كمبدأ عالمي لا يتأثر بالتحيزات الشخصية.

ومع ذلك، فإن عالمنا الحالي يواجه تحديات أكبر. المجتمعات المعاصرة تُسيطر عليها القوة الاقتصادية والنفوذ السياسي، مما يجعل العدالة مفهومًا نظريًا يصعب تطبيقه في الواقع. ميشيل فوكو، على سبيل المثال، يذهب إلى أن القوة والسلطة هي التي تُشكل الحقائق الاجتماعية، بما في ذلك العدالة. في نظر فوكو، النظام السياسي لا يُدار لتحقيق العدالة بل لتعزيز السلطة، سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسات.

العدالة، في هذا السياق، لا تكون سوى وسيلة لإضفاء الشرعية على الأنظمة القائمة. السلطة تستخدم مفاهيم العدالة كأداة للحفاظ على النظام والسيطرة، حيث يتم تحريف مفاهيم الحق والعدالة لصالح الطبقات الأقوى. وبالتالي، فإن تحقيق العدالة في مجتمع غير عادل يستدعي إعادة النظر في هياكل السلطة القائمة التي تحكم توزيع الثروة والفرص.

الدكتور عبد الله السالمي، أستاذ الفلسفة السياسية، يؤكد خلال حديثه لـ”شُبّاك” أن تحقيق العدالة في عالم غير عادل هو تحدٍ فلسفي وسياسي كبير. ويضيف: “العدالة ليست مجرد فكرة مثالية، بل هي مبدأ يجب السعي لتطبيقه حتى في ظل بيئات سياسية واجتماعية غير عادلة. العدالة، من وجهة نظر فلسفية، تعني ضمان المساواة في الفرص والحقوق لكل الأفراد. لكن المشكلة تكمن في أن الأنظمة السياسية والاقتصادية الحالية في العديد من الدول تعمل على تعزيز الفجوات بين الفئات الغنية والفقيرة، مما يجعل تطبيق العدالة تحديًا كبيرًا.”

السالمي يدعو إلى مراجعة شاملة للنظام الاقتصادي العالمي الذي يقوم على توزيع غير عادل للثروة. “النظام الرأسمالي المتقدم يزيد من الفوارق الاجتماعية والاقتصادية، حيث تُمنح الفرص والموارد للأغنياء على حساب الفقراء. لتحقيق العدالة، نحتاج إلى تغيير في النظام الهيكلي، والتخلص من الأنظمة التي تعتمد على الاستغلال الاقتصادي والاحتكار.” ويرى السالمي أن الحل يكمن في تعزيز العدالة التوزيعية التي تقترح إعادة توزيع الموارد بشكل أكثر إنصافًا من أجل تقليص الفجوة الاجتماعية.

التفاوتات الاقتصادية تحدٍ لتحقيق العدالة

من أبرز العقبات التي تقف أمام تحقيق العدالة هو الفجوة الاقتصادية الهائلة بين الأغنياء والفقراء، والتي تتفاقم بفعل العولمة وسياسات النيوليبرالية الاقتصادية. توماس بيكيتي، الاقتصادي الفرنسي المعروف، أشار في كتابه “رأس المال في القرن الحادي والعشرين” إلى أن الثروة تتجمع بشكل متزايد في يد فئة قليلة، مما يؤدي إلى تفاوت هائل في الدخل والثروة. هذا التفاوت لا ينجم فقط عن الكفاءة أو العمل الجاد، بل عن موروثات النظم الرأسمالية التي تمنح الأغنياء مزيدًا من الفرص لتراكم الثروات على حساب الفقراء.

إذاً، كيف يمكن الحديث عن العدالة في نظام يشجع على تكديس الثروات لصالح القلة؟ هنا تبرز فكرة العدالة التوزيعية، التي تركز على ضرورة إعادة توزيع الثروات لتحقيق مبدأ المساواة الاجتماعية والاقتصادية. هذه الفكرة تجد صدى في أفكار كارل ماركس الذي دعا إلى التخلص من الملكية الخاصة كوسيلة لتحقيق مجتمع عادل.

لا يمكن الحديث عن العدالة دون التطرق إلى القضايا البيئية. العدالة البيئية هي مفهوم حديث نسبيًا، يعنى بكيفية توزيع الآثار البيئية بشكل عادل بين الناس. المجتمعات الفقيرة والنامية غالبًا ما تكون الأكثر تضررًا من التلوث والتغير المناخي، في حين تظل الدول الغنية هي الأكثر استفادة من التصنيع والاقتصاد القائم على استغلال الموارد الطبيعية.

مشكلة العدالة البيئية تكشف عن جوانب أخرى من عدم العدالة، حيث تتحمل الفئات الأقل حظًا تبعات سياسات اقتصادية وصناعية لم تساهم في صياغتها، مما يجعل تحقيق العدالة البيئية ركيزة أساسية لتحقيق العدالة الشاملة.

مريم الجندي، الخبيرة في العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، تتبنى وجهة نظر نقدية تجاه العلاقة بين العدالة والسلطة، مستندة إلى نظريات مثل نظرية ميشيل فوكو في السلطة والمعرفة. تقول الجندي خلال حديثها لـ”شُبّاك” إن “العدالة في المجتمعات الحالية ليست مسألة قانونية أو اقتصادية فقط، بل هي نتاج علاقة معقدة بين السلطة والهيمنة. السلطة تستخدم العدالة كأداة لضبط المجتمع، لكن في الوقت ذاته، يمكن أن تعمل على تقييدها إذا كانت تهدد النظام القائم.”

تضيف الجندي: “تحقيق العدالة يتطلب أكثر من مجرد إصلاحات سياسية واقتصادية. إنه يتطلب تغييرًا في الهيكليات الاجتماعية التي تهمش الفئات الضعيفة، كالنساء، الأقليات، والطبقات الفقيرة. العدالة لا تعني فقط توزيع الثروة والفرص، بل أيضًا تعزيز مشاركة الجميع في صنع القرارات السياسية والاقتصادية.” وترى الجندي أن التغيير يبدأ من القاعدة من خلال تعزيز الوعي المجتمعي ودعم الحركات الاجتماعية التي تسعى لتحقيق المساواة وحقوق الإنسان.

العولمة بدورها زادت من تعقيد مسألة العدالة. بينما تروج العولمة للحرية الاقتصادية والتجارة العالمية، إلا أنها غالبًا ما تزيد من التفاوتات. الشركات المتعددة الجنسيات، التي تستغل الأيدي العاملة الرخيصة في الدول النامية، تساهم في تعزيز الفجوة بين الأغنياء والفقراء. في الوقت ذاته، تبقى الدول النامية مثقلة بالديون والنزاعات الداخلية، مما يجعل العدالة مسألة ثانوية في السياسات الاقتصادية العالمية.

نظريات العدالة التوزيعية تواجه تحديات كبيرة في ظل هذه الأوضاع. كيف يمكن تطبيق مفاهيم مثل تلك التي طرحها راولز حول “العدالة كإنصاف” في عالم يعتمد على الاستغلال الاقتصادي وعدم التكافؤ في الفرص؟

هل يمكن تحقيق العدالة؟

تحقيق العدالة في عالم غير عادل يبدو أشبه بمهمة مستحيلة، لكن المفكرين والفلاسفة يجادلون بأن العدالة ليست هدفًا نهائيًا بل عملية مستمرة. يُعزز هذا التصور الأفكار التي تركز على بناء مؤسسات عادلة قدر الإمكان، وتشجيع الأنظمة التعليمية والسياسية التي تدعم التفكير النقدي والمساواة.

على الرغم من أن الأنظمة الحالية قد تعيق تحقيق العدالة الحقيقية، إلا أن إمكانية التغيير تظل قائمة. الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس يشير إلى أن الحوار والمشاركة المجتمعية هما الوسيلة الأساسية للوصول إلى العدالة في المجتمعات الديمقراطية. بالنسبة لهابرماس، فإن العدالة هي نتاج عملية تفاعلية، يتم فيها اتخاذ القرارات بناءً على الحوار المفتوح والشامل الذي يأخذ بعين الاعتبار جميع الفئات.

إن تحقيق العدالة في عالم غير عادل يظل تحديًا هائلًا. الأنظمة القائمة، سواء السياسية أو الاقتصادية، تعمل غالبًا على تعزيز الفوارق الاجتماعية، ما يجعل العدالة هدفًا صعب المنال. لكن الفلسفة، من خلال تاريخها الطويل من التنظير حول العدالة، لا تزال تقدم إطارًا لفهم هذه التحديات والسعي نحو تحقيق مجتمع أكثر عدالة. تحقيق العدالة قد لا يكون هدفًا نهائيًا، لكنه يظل عملية تحتاج إلى السعي المستمر والإصلاحات الهيكلية على المستوى العالمي والمحلي.

Related Post