الخميس. أكتوبر 17th, 2024

الكومونة الباريسية.. أول تجربة اشتراكية في تاريخ العالم

الكومونة الباريسية (La Commune de Paris) كانت واحدة من أكثر الأحداث السياسية الجذرية في تاريخ أوروبا الحديث، واعتُبرت أول محاولة لتطبيق مبادئ الاشتراكية والثورة العمالية في سياق سياسي حضري. استمرت هذه التجربة بين 18 مارس و28 مايو عام 1871 في العاصمة الفرنسية باريس. رغم قصر عمرها، إلا أن الكومونة تركت أثرًا عميقًا في الفكر السياسي اليساري والعمالي، وتمثل الشرارة الأولى للحركات الاشتراكية التي تأثرت بها العديد من الثورات وحركات التحرر عبر التاريخ.

الخلفية السياسية والاجتماعية للكومونة

نشأت الكومونة الباريسية في أعقاب الحرب الفرنسية-البروسية التي بدأت عام 1870 وانتهت بهزيمة الإمبراطورية الفرنسية الثانية بقيادة الإمبراطور نابليون الثالث. الهزيمة العسكرية الفرنسية، والتوقيع على اتفاقية سلام مذلّة مع بروسيا، أديا إلى استياء شعبي كبير في فرنسا، خاصة في باريس. وكان الفرنسيون قد عانوا من حصار بروسيا الطويل لباريس، مما أدى إلى جوع وانتشار الأمراض في المدينة، ما عزز من مطالب الجماهير الغاضبة بالإصلاحات.

في أعقاب سقوط نابليون الثالث، تم تأسيس الجمهورية الثالثة في سبتمبر 1870، ولكن الحكومة الجديدة برئاسة أدولف تيير اختارت الاستسلام للبروسيين. أثارت هذه الخطوة غضب الباريسيين الذين شعروا بالخيانة من قبل الحكومة الجمهورية، مما دفعهم إلى تنظيم أنفسهم ورفع السلاح دفاعًا عن الكرامة الوطنية ضد الاحتلال البروسي والطبقات البرجوازية التي دعمت تيير.

بدأت الثورة في 18 مارس 1871 بعد أن حاولت الحكومة المركزية نزع أسلحة ميليشيا باريس، مما أثار غضب العمال والجنود المتمردين. سرعان ما فرضت اللجان العمالية الشعبية سيطرتها على المدينة وأعلنت قيام الكومونة الباريسية، وهي حكومة شعبية تمثل الطبقات العاملة وتحمل مبادئ الاشتراكية. كانت الكومونة تجربة فريدة من نوعها، حيث سعت لتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة من خلال إجراءات سياسية واقتصادية شاملة.

أهم أهداف الكومونة كانت:

إلغاء الجيش النظامي واستبداله بميليشيا شعبية.
تقليص ساعات العمل ومنح العمال حقوقاً اجتماعية واقتصادية.
التعليم المجاني والعلماني للجميع.
فصل الدين عن الدولة وتحقيق المساواة بين المواطنين في إطار جمهورية ديمقراطية.

الكومونة كانت أول محاولة لتطبيق مبادئ الماركسية والاشتراكية على أرض الواقع. رغم أنها لم تعلن بشكل صريح التزامها بالفكر الماركسي، إلا أن كارل ماركس رأى فيها “التمثيل العملي” لأفكاره. وصف ماركس الكومونة بأنها “النموذج الحي للدولة البروليتارية”، ورأى فيها خطوة نحو إلغاء الملكية الخاصة وإعادة توزيع الثروة بشكل عادل.

اتخذت الكومونة العديد من الإجراءات الاشتراكية، منها:

إلغاء الديون الشخصية والفوائد المترتبة عليها.
تأميم المصانع وتشغيلها من قبل العمال.
إقرار إصلاحات اجتماعية مثل حق الانتخاب لجميع الرجال، وتقليص ساعات العمل اليومية.
دعم الفنانين والمثقفين واعتبارهم جزءاً من مشروع الثورة، مما أدى إلى ظهور نهضة ثقافية وفنية قصيرة.

العنف والصراع مع الحكومة المركزية

منذ الأيام الأولى للكومونة، واجهت حكومة تيير الكومونة بالقوة العسكرية. حاولت الحكومة محاصرة باريس وعزلها عن باقي البلاد. وفي أواخر أبريل 1871، بدأت القوات الحكومية هجومًا شاملًا لاستعادة المدينة. استمر الحصار لأكثر من شهرين، حيث دخلت قوات الحكومة المدينة في الأسبوع الدموي الذي بدأ في 21 مايو وانتهى في 28 مايو 1871.

سقوط الكومونة كان مأساويًا. خلال الأسبوع الدموي، تم قتل أكثر من 20 ألف شخص من أنصار الكومونة، وتم اعتقال آلاف آخرين. جرى تنفيذ إعدامات جماعية بحق الثوار، وتم إعدام قادة الكومونة أو نفيهم إلى مستعمرات بعيدة مثل كاليدونيا الجديدة.

رغم قصر مدة الكومونة، إلا أن الفكر الاشتراكي والعمالي وجد فيها نموذجًا للاقتداء به. كانت الوحشية التي انتهجتها الحكومة ضد العمال والثوار بمثابة شرارة جديدة لحركات العمال في أوروبا، وأصبحت الكومونة رمزًا للنضال ضد الاستبداد والأنظمة القمعية.

لم تنته قصة الكومونة الباريسية بسقوطها الدموي، بل تحولت إلى أيقونة للنضال الاشتراكي. لعبت الكومونة دورًا بارزًا في تطوير الفكر الاشتراكي والعمالي في جميع أنحاء العالم. اعتبرها كارل ماركس وفريدريك إنجلز “الحكومة البروليتارية الأولى”، وظلت الكومونة مصدر إلهام للعديد من الحركات الاشتراكية والعمالية التي نشأت لاحقًا في أوروبا وأمريكا اللاتينية وآسيا.

الكومونة في الفكر الماركسي

أبرز ما قاله كارل ماركس في كتابه “الحرب الأهلية في فرنسا” حول الكومونة كان إشادته بـ “الطبيعة الشعبية الثورية” للكومونة. رأى ماركس أن الطبقة العاملة كانت للمرة الأولى قادرة على الإمساك بزمام السلطة ومحاولة خلق مجتمع خالٍ من القمع والطبقات الاجتماعية. كما رأى أن فشل الكومونة كان نتيجة العنف المفرط من قبل الحكومة المركزية والنقص في الدعم التنظيمي للمقاومة.

على الرغم من فشل الكومونة الباريسية، إلا أن إرثها الثوري استمر في إشعال الحركات الاشتراكية والعمالية حول العالم. استلهمت الثورات الروسية والصينية والأمريكية اللاتينية الكثير من أفكارها. كانت الكومونة درسًا تاريخيًا في كيف يمكن لقوة الطبقات العاملة أن تكون حجر الزاوية في مواجهة الأنظمة الاستبدادية، وأن الثورة الشعبية قادرة على إعادة تشكيل بنية المجتمع إذا ما أتيحت لها الفرصة المناسبة.

Related Post