في أوائل الثلاثينيات، عاشت أوكرانيا واحدة من أسوأ المجاعات في التاريخ الحديث، حيث قضى الملايين نحبهم جوعاً في فترة أصبحت تُعرف باسم “هولودومور”، والتي تعني حرفياً “القتل بالتجويع”. لم تكن هذه المجاعة مجرد نتيجة لسوء المحاصيل أو ظروف مناخية قاسية، بل كانت وفق العديد من المؤرخين والباحثين إبادة جماعية متعمدة، نفذها النظام السوفييتي بقيادة جوزيف ستالين، كجزء من سياساته القمعية ضد الفلاحين الأوكرانيين الذين رفضوا الانصياع لنظام التجميع القسري للزراعة.
بعد أكثر من 90 عاماً، لا يزال الجدل قائماً حول هولودومور: هل كانت مأساة غير مقصودة نتجت عن السياسات الاقتصادية الفاشلة للاتحاد السوفييتي، أم أنها كانت جريمة إبادة متعمدة تهدف إلى قمع الهوية الأوكرانية وتركيع شعب بأكمله؟ ولماذا لا تزال هذه المجاعة نقطة خلاف بين أوكرانيا وروسيا حتى اليوم؟
كيف بدأت المجاعة؟
في عام 1928، أطلق جوزيف ستالين خطة التجميع الزراعي، التي أجبرت الفلاحين على تسليم أراضيهم للدولة والانضمام إلى مزارع تعاونية جماعية. كان الهدف الرسمي من هذه السياسة هو زيادة الإنتاج الزراعي لتوفير الغذاء للمدن السوفييتية، ودعم التصنيع السريع، لكن الواقع كان مختلفاً تماماً.
واجه الفلاحون الأوكرانيون هذه السياسة بمقاومة شديدة، حيث رفضوا التخلي عن أراضيهم ومحاصيلهم لصالح الدولة. ردّت الحكومة السوفييتية بقسوة، فبدأت في مصادرة المحاصيل بالقوة، وفرضت ضرائب تعجيزية على القرى التي لم تمتثل لأوامر التجميع. بحلول عام 1931، بدأ نقص الغذاء يتفاقم، ومع حلول عام 1932، تحولت الأزمة إلى مجاعة واسعة النطاق.
هل كانت المجاعة مفتعلة؟
أحد أكثر الجوانب المثيرة للجدل في هولودومور هو ما إذا كانت هذه المجاعة مفتعلة من قبل القيادة السوفييتية. تشير العديد من الوثائق التاريخية إلى أن الحكومة السوفييتية لم تكتفِ بمصادرة الطعام، بل فرضت إجراءات زادت من تفاقم الأزمة، مثل منع الفلاحين من مغادرة قراهم بحثاً عن الطعام، وإغلاق الحدود بين أوكرانيا وبقية الاتحاد السوفييتي، لمنع أي محاولات هروب.
كان لدى الدولة السوفييتية مخزون كافٍ من الحبوب، لكنها رفضت توزيعه على الأوكرانيين المتضررين، بل استمرت في تصدير القمح إلى الخارج، حتى في ذروة المجاعة. تم إرسال وحدات خاصة من الشرطة والجيش لمداهمة القرى، ومصادرة كل ما يمكن أكله، بما في ذلك المواشي والبذور التي كان من المفترض استخدامها للزراعة في الموسم التالي.
لم يكن الهدف مجرد فرض السيطرة الاقتصادية، بل كان هناك بعد سياسي واضح، حيث اعتُبرت أوكرانيا منطقة تمرد محتملة ضد الحكم السوفييتي، وكان ستالين يرى في الفلاحين الأوكرانيين تهديداً لسلطته، بسبب مقاومتهم المتكررة لسياسات الدولة.
كيف كانت الحياة في ظل المجاعة؟
المشاهد التي وثقتها التقارير والشهادات عن هولودومور تفوق كل وصف. مات الملايين من الجوع، وتحولت القرى الأوكرانية إلى مقابر مفتوحة. اضطر الناس إلى أكل لحاء الأشجار، والحيوانات الضالة، بل حتى ارتكبت حالات من أكل لحوم البشر في بعض المناطق المنكوبة.
كانت المجاعة شاملة لدرجة أن الأطفال تُركوا في الشوارع دون طعام، حيث كانوا ينهارون على الأرصفة في مشاهد مروعة لم يشهدها التاريخ الحديث سوى في أسوأ الأزمات الإنسانية. في بعض القرى، كان الجنود يداهمون المنازل للتأكد من أن السكان لم يخبئوا أي طعام، وكان أي شخص يُقبض عليه وبحوزته حبوب قليلة يُعتبر مجرماً يُحكم عليه بالنفي أو الإعدام.
لماذا استمر التعتيم على هولودومور لعقود؟
خلال الحقبة السوفييتية، تم التعتيم تماماً على هولودومور، حيث اعتبرتها الحكومة السوفييتية “دعاية معادية”، ورفضت الاعتراف بها كمجاعة من صنع الإنسان. تم تزوير السجلات الرسمية، وإخفاء أي تقارير صحفية تتحدث عن الكارثة. حتى في الغرب، كانت بعض القوى السياسية تتجنب الحديث عن المجاعة، خوفاً من إفساد العلاقات مع الاتحاد السوفييتي، الذي كان لاعباً رئيسياً في النظام الدولي.
لم يبدأ الكشف عن حقيقة هولودومور إلا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991، حيث بدأت أوكرانيا المستقلة بإعادة فتح الأرشيفات، وإجراء تحقيقات رسمية حول المجاعة. في عام 2006، أعلن البرلمان الأوكراني أن هولودومور كانت إبادة جماعية متعمدة ضد الشعب الأوكراني، وهو ما أثار خلافات دبلوماسية مع روسيا، التي ترفض هذا التصنيف حتى اليوم.
هل كانت هولودومور إبادة جماعية؟
رغم أن أوكرانيا تصنف هولودومور كإبادة جماعية، فإن بعض المؤرخين لا يزالون يختلفون حول هذا التوصيف. القانون الدولي يعرّف الإبادة الجماعية على أنها محاولة متعمدة لتدمير جماعة عرقية أو قومية بالكامل، وهو ما يرى بعض الباحثين أنه ينطبق على هولودومور، نظراً لأن السياسة السوفييتية استهدفت الأوكرانيين تحديداً، وحاولت القضاء على هويتهم القومية من خلال التجويع الجماعي.
لكن في المقابل، يجادل آخرون بأن المجاعة لم تقتصر على أوكرانيا، بل امتدت إلى مناطق أخرى من الاتحاد السوفييتي، مثل كازاخستان والريف الروسي، مما يجعلها نتيجة لسياسات اقتصادية كارثية، وليس بالضرورة جريمة إبادة جماعية مخططة.
كيف يؤثر إرث هولودومور على العلاقات بين أوكرانيا وروسيا اليوم؟
لا تزال هولودومور تلعب دوراً رئيسياً في السياسة الأوكرانية المعاصرة، حيث تُستخدم كرمز للاضطهاد التاريخي الذي تعرضت له أوكرانيا على يد روسيا. بالنسبة للأوكرانيين، فإن إحياء ذكرى المجاعة هو تأكيد على هويتهم الوطنية، وتذكير دائم بضرورة الحفاظ على استقلالهم عن موسكو.
من جهة أخرى، ترفض روسيا الاعتراف بهولودومور كإبادة جماعية، وتعتبرها جزءاً من المعاناة العامة التي واجهها الشعب السوفييتي في تلك الفترة. هذا الخلاف التاريخي أصبح جزءاً من التوترات السياسية المتزايدة بين البلدين، حيث ترى أوكرانيا في الاعتراف بالمجاعة كجريمة إبادة خطوة نحو تحقيق العدالة التاريخية، بينما تعتبر روسيا هذا الأمر محاولة لتشويه تاريخها.
رغم أن العالم شهد تحسناً كبيراً في إنتاج وتوزيع الغذاء، فإن استخدام الجوع كسلاح سياسي لا يزال قائماً في بعض الصراعات الحديثة. من سوريا إلى اليمن إلى كوريا الشمالية، لا تزال بعض الأنظمة تستخدم الحرمان من الغذاء كوسيلة للضغط على الشعوب وإخضاعها.
تبقى هولودومور واحدة من أكثر الفصول المأساوية في التاريخ الحديث، ورغم مرور تسعين عاماً على وقوعها، لا تزال آثارها مستمرة، سواء في ذاكرة أوكرانيا، أو في الجدل السياسي حول مسؤولية الاتحاد السوفييتي عن هذه الكارثة. السؤال الذي يطرح نفسه اليوم: هل سيتعلم العالم من دروس الماضي، أم أن الجوع سيظل أداة في يد الأنظمة الديكتاتورية لإحكام قبضتها على الشعوب؟