Spread the love

في عالم تحكمه القيود الاجتماعية، والرقابة السياسية، والعنف القائم على النوع الاجتماعي، باتت وسائل التواصل الاجتماعي تشكل مساحة جديدة للنساء العربيات لمناقشة قضاياهن بحرية نسبية بعيدًا عن الضغوط المجتمعية المباشرة. انتشرت المجموعات المغلقة على فيسبوك، تيليغرام، وواتساب كملاذ رقمي لطرح القضايا النسوية، من الحقوق الجسدية إلى التحرش والعنف الأسري، وصولًا إلى قضايا التمثيل السياسي والمساواة الاقتصادية. ولكن هل تمثل هذه الفضاءات بديلاً حقيقيًا عن المشاركة النسوية في المجال العام، أم أنها مجرد انعكاس لحالة انسداد الأفق في المشهد العام للمرأة العربية؟

فضاء رقمي آمن أم عزلة جديدة؟

لجأت النساء إلى هذه المساحات بسبب غياب الأمان الحقيقي في المجال العام، حيث تواجه الناشطات النسويات تهديدات تصل إلى العنف الجسدي، والتشهير، والتضييق القانوني، كما حدث مع العديد من الناشطات في مصر والسعودية وتونس، اللواتي تعرضن لحملات تشويه ممنهجة بسبب آرائهن النسوية.

تؤكد الباحثة اللبنانية ريما درويش، المختصة في قضايا الجندر، أن “الفضاء الرقمي أصبح أداة تمكين للكثير من النساء، لكنه في الوقت نفسه يعكس أزمة عميقة في المجتمعات العربية، حيث لا تزال النساء غير قادرات على التعبير عن أنفسهن في المجال العام دون خوف. هذه المجموعات المغلقة توفر مساحة آمنة للنقاش، لكنها لا تحل الإشكالية الأساسية، وهي قمع حرية التعبير للنساء في الواقع الفعلي.”

وتشير إلى أن هذه الظاهرة تعكس طبيعة التناقض الذي تعيشه المرأة العربية، حيث تجد في الفضاء الرقمي حرية لا تتوفر لها في الواقع، مما يخلق ازدواجية بين خطابها في العالم الافتراضي وخياراتها وسلوكها في الحياة اليومية.

بين التحرر والقيود: كيف تغيرت طبيعة الحراك النسوي؟

خلال العقد الأخير، لعبت الإنترنت دورًا مركزيًا في تعزيز الحركات النسوية عالميًا، حيث ساهمت حملات مثل #MeToo و#أنا_أيضًا في كسر حاجز الصمت حول التحرش الجنسي، وانتقلت هذه الديناميكية إلى بعض الدول العربية مثل تونس ولبنان، حيث قادت ناشطات حملات رقمية واسعة ضد التحرش والعنف الأسري.

لكن السؤال الذي يطرحه الباحث المغربي سامي الرشيد، المختص في علم الاجتماع النسوي، هو: “هل هذه الفضاءات تعزز فعلاً الوعي النسوي، أم أنها تؤدي إلى مزيد من العزلة والانفصال عن الواقع؟”. يجيب: “في بعض الحالات، تحولت هذه المجموعات إلى فقاعات رقمية، حيث تظل النقاشات حبيسة الدائرة المغلقة دون أن تؤثر على السياسات أو القوانين، مما يجعلها مجرد بديل مؤقت عن العمل النسوي الميداني الذي يحتاج إلى مواجهات مباشرة مع السلطة والمجتمع.”

ويضيف أن التحول الرقمي للحراك النسوي يحمل في طياته مخاطر، أبرزها أن تصبح القضايا النسوية مجرد “ترندات” لحظية على مواقع التواصل، يتم التفاعل معها لفترة وجيزة قبل أن تُدفن تحت موجة جديدة من الأخبار والمواضيع.

التكنولوجيا في خدمة النسوية أم وسيلة للمراقبة؟

يعتبر الإنترنت سيفًا ذا حدين بالنسبة للنساء. فمن ناحية، وفر لهن منصة للتواصل والتضامن ومشاركة تجاربهن، ولكنه أيضًا أتاح فرصًا جديدة للرقابة الإلكترونية والمضايقات الرقمية. في العديد من الدول العربية، تتعرض النساء الناشطات في المجال النسوي لهجمات سيبرانية، وعمليات اختراق، وتسريبات تهدف إلى التشهير بهن، كما حصل مع عدة ناشطات في مصر والخليج.

وبحسب تقرير صادر عن منظمة هيومن رايتس ووتش لعام 2023، فإن النساء الناشطات على الإنترنت في العالم العربي يواجهن مستويات متزايدة من العنف الإلكتروني، بما في ذلك التهديدات الجنسية، والابتزاز الرقمي، والحملات المنظمة لإسكات أصواتهن.

وتشير الباحثة ريما درويش إلى أن “القوانين العربية لا تزال عاجزة عن حماية النساء من العنف الإلكتروني، بل إن بعض الدول تستخدم تقنيات المراقبة الرقمية لتعقب الناشطات وإسكاتهن”، مؤكدة أن “الفضاء الرقمي لا يمكن أن يكون بديلاً عن المجال العام إذا لم تصاحبه إصلاحات قانونية تضمن حرية النساء في التعبير دون خوف من القمع أو العنف.”

هل يمكن للفضاء الرقمي أن يصبح قوة تغيير حقيقية؟

رغم هذه التحديات، لا يمكن إنكار الدور الذي تلعبه هذه المجتمعات الرقمية في نشر الوعي النسوي، وتبادل الخبرات، وخلق تضامن عابر للحدود بين النساء العربيات. فقد ساهمت بعض الحملات الرقمية في الضغط من أجل تعديلات قانونية، كما حصل في الأردن عندما ألغيت المادة 308 من قانون العقوبات، التي كانت تتيح للمغتصب الإفلات من العقوبة بالزواج من الضحية، بعد حملة إلكترونية نسوية استمرت لسنوات.

لكن الباحث سامي الرشيد يحذر من أن “الاعتماد المفرط على الفضاء الرقمي قد يجعل الحراك النسوي هشًا وقابلًا للانهيار مع أي تغيير في سياسات منصات التواصل الاجتماعي، أو مع تصاعد الرقابة الرقمية في بعض الدول. لذا، فإن التحدي الحقيقي هو كيف يمكن تحويل هذه المجتمعات الرقمية إلى منصات قادرة على إحداث تغيير ملموس على أرض الواقع.”

تشكل المجموعات النسوية المغلقة على الإنترنت انعكاسًا مباشرًا لغياب الحريات في الواقع، لكنها ليست بديلاً عن الحراك النسوي الميداني. وبينما توفر هذه الفضاءات ملاذًا رقميًا للنساء لمناقشة قضاياهن، فإنها تظل محدودة التأثير إذا لم تُترجم إلى مطالب ملموسة في الشارع والسياسة والقوانين.

ويبقى السؤال مفتوحًا: هل يمكن لهذه المجتمعات أن تكون خطوة انتقالية نحو فضاء عام أكثر شمولًا للنساء، أم أنها مجرد ملاذ مؤقت في ظل واقع يضيق على كل صوت نسوي يسعى للتغيير؟

error: Content is protected !!