Spread the love

لطالما ظلت السياسة الخارجية حكرًا على الرجال، حيث تهيمن النخب الذكورية على القرارات المصيرية المتعلقة بالحروب، المفاوضات، والتحالفات الدولية. ومع ذلك، شهد العالم خلال العقود الأخيرة زيادة في مشاركة النساء في المجال الدبلوماسي، من وزراء خارجية إلى مبعوثات للأمم المتحدة. لكن هل يؤدي وجود النساء في السياسة الخارجية إلى تغيير حقيقي في طريقة إدارة الأزمات العالمية؟ أم أنهن مضطرات إلى تبني الأسلوب التقليدي نفسه للبقاء في مراكز القوة؟

النساء في السياسة الخارجية: حضور متزايد أم تمثيل رمزي؟

رغم أن العديد من الدول بدأت في تعيين نساء في مناصب دبلوماسية رفيعة، إلا أن حضورهن لا يزال ضعيفًا مقارنة بالرجال. وفقًا لتقرير صادر عن منظمة الأمم المتحدة للمرأة عام 2023، فإن النساء يشغلن أقل من 15% من المناصب العليا في وزارات الخارجية حول العالم، مع استثناءات قليلة مثل السويد، كندا، ونيوزيلندا، حيث تتبنى هذه الدول سياسات خارجية قائمة على ما يسمى بـ”الدبلوماسية النسوية”.

توضح الباحثة الأردنية هند السالم، المتخصصة في العلاقات الدولية، أن “مشاركة النساء في السياسة الخارجية غالبًا ما تكون شكلية أكثر منها جوهرية. صحيح أن هناك أسماء بارزة مثل أنجيلا ميركل، وكريستيا فريلاند في كندا، وفيونا هيل في الولايات المتحدة، لكن نسبة النساء اللواتي يصلن إلى مواقع التأثير الحقيقي في القرارات الجيوسياسية لا تزال منخفضة جدًا.”

وتضيف أن “النساء في السياسة الخارجية غالبًا ما يواجهن ضغوطًا لتبني الأسلوب الذكوري في إدارة الأزمات، لأن الأنظمة السياسية لا تزال قائمة على معايير القوة والمواجهة، وليس الحوار والتفاوض، مما يجعل التأثير النسائي محدودًا.”

هل تقود النساء المفاوضات بطريقة مختلفة؟

أظهرت الدراسات أن النساء غالبًا ما يعتمدن على النهج التفاوضي والسلمي في إدارة الأزمات، مقارنة بالنزعة التصادمية التي تميز أساليب العديد من القادة الذكور.

يقول الباحث المغربي سامي الزهيري، المتخصص في العلوم السياسية، إن “التجارب أثبتت أن النساء يملن إلى البحث عن حلول دبلوماسية طويلة الأمد بدلًا من التصعيد. على سبيل المثال، لعبت وزيرة الخارجية السويدية السابقة مارغو والستروم دورًا كبيرًا في تعزيز فكرة ‘الدبلوماسية النسوية’ التي تركز على حقوق الإنسان، والتنمية المستدامة، وإشراك النساء في عمليات السلام.”

ويضيف أن “الأبحاث أظهرت أن عمليات السلام التي تشارك فيها النساء لديها فرصة نجاح أكبر بنسبة 35% مقارنة بتلك التي يقودها الرجال فقط، وهو ما يثبت أن المرأة يمكن أن تكون عنصرًا أساسيًا في تحقيق الاستقرار الدولي.”
لماذا يتم استبعاد النساء من المفاوضات الكبرى؟

رغم الدور الإيجابي الذي يمكن أن تلعبه النساء في السياسة الخارجية، لا تزال مشاركتهن في المفاوضات الدولية الكبرى محدودة للغاية. فمن محادثات كامب ديفيد، إلى مفاوضات اتفاقيات أوسلو، إلى محادثات السلام حول سوريا واليمن، كان الغياب النسائي هو القاعدة.

تقول هند السالم إن “السبب الرئيسي وراء هذا الإقصاء هو أن السياسة الخارجية لا تزال تعتبر مجالًا ‘ذكوريًا’، حيث يتم ربط القوة والحنكة الدبلوماسية بالرجال. هناك اعتقاد شائع بأن النساء ‘أقل قدرة’ على التعامل مع القضايا الجيوسياسية المعقدة، رغم أن الأدلة تشير إلى العكس تمامًا.”

وتضيف أن “هناك أيضًا عقبات هيكلية، فالدول التي تعاني من أنظمة سلطوية أو تقاليد ذكورية متجذرة لا تزال ترفض تعيين النساء في مناصب صنع القرار الدبلوماسي، مما يجعل الأمر مقتصرًا على الدول الديمقراطية التي قطعت أشواطًا في تحقيق المساواة الجندرية.”

نحو سياسة خارجية أكثر شمولًا: كيف يمكن تمكين النساء دبلوماسيًا؟

إذا كان وجود النساء في السياسة الخارجية يساهم في تعزيز الاستقرار العالمي، فإن الحل يكمن في إزالة العوائق التي تمنعهن من الوصول إلى مواقع التأثير الفعلي. بعض الخطوات التي يمكن اتخاذها:

تعديل القوانين لضمان تمثيل النساء في وفود التفاوض والمحادثات الدبلوماسية الدولية.
تغيير الثقافة السياسية التي تربط القوة في السياسة الخارجية بالنزعة العدوانية، وإفساح المجال لأساليب أكثر شمولًا وتفاوضية.
تشجيع الدول على تبني “الدبلوماسية النسوية” كما فعلت السويد وكندا، حيث يتم تصميم السياسات الخارجية بطريقة تأخذ في الاعتبار احتياجات النساء والمجتمعات المهمشة.

رغم التقدم الذي أحرزته النساء في مجال الدبلوماسية، لا يزال الطريق طويلًا أمام تحقيق مشاركة متساوية في القرارات الجيوسياسية الكبرى. إن غياب النساء عن طاولات المفاوضات لا يعكس فقط التمييز الجندري، بل يؤثر أيضًا على نتائج السياسة الخارجية نفسها، حيث تفقد هذه العمليات بعدًا مهمًا يتمثل في الرؤية النسوية للحلول المستدامة.

ويبقى السؤال: هل سيشهد العالم يومًا تقود فيه النساء السياسة الخارجية على نطاق واسع، أم أن هذا المجال سيظل محكومًا بالهيمنة الذكورية؟

error: Content is protected !!