لطالما كان التعليم أداةً قوية للتحرر والتغيير الاجتماعي. فمنذ بداية الحركات النسوية العالمية، حظي التعليم بمكانة محورية في مطالبات النساء بالمساواة والحقوق. فالتعليم، من الناحية النظرية، يُعتبر وسيلةً لتحقيق استقلالية المرأة وإعطائها الأدوات اللازمة لتحرير نفسها من القيود الاجتماعية والاقتصادية. ومع ذلك، هل كان التعليم في الواقع تلك القوة التحررية التي تدعو إليها الحركات النسوية؟ أم أنه في بعض الأحيان يعيد إنتاج الأنماط البطريركية بشكلٍ خفي؟
التعليم كوسيلة للتحرر
في العديد من المجتمعات، لا سيما المجتمعات العربية، يُنظر إلى تعليم المرأة على أنه إحدى الخطوات الأساسية لتحسين وضعها الاجتماعي والاقتصادي. فالحصول على التعليم يوفر لها القدرة على المنافسة في سوق العمل، وتحقيق الاستقلالية المالية، والمساهمة في الحياة العامة. بالإضافة إلى ذلك، التعليم يسهم في توسيع آفاق المرأة الفكرية، ويمنحها الوسائل التي تساعدها على التفكير النقدي والتحدي لمفاهيم المجتمع التقليدية.
عبر التعليم، تحصل النساء على فرصة للتفاعل مع أفكار وقيم جديدة تتجاوز الحدود التقليدية المفروضة عليهن. في العديد من الحالات، تكون الفتيات والنساء المتعلمات أكثر قدرة على المطالبة بحقوقهن ومواجهة التحديات المجتمعية التي تمنعهن من تحقيق إمكانياتهن.
رغم الفوائد العديدة التي يمكن أن يجلبها التعليم للمرأة، فإن السؤال الذي يُطرح هو: هل التعليم في ذاته، وفي صيغته الحالية، يعيد إنتاج الهياكل البطريركية بشكل خفي؟ الإجابة على هذا السؤال تكمن في فهم طبيعة النظام التعليمي نفسه، وكيفية صياغته في سياق اجتماعي وثقافي لا يزال يحمل بين طياته تراثًا بطريركيًا.
النظام التعليمي في معظم الدول، حتى تلك التي تُعد متقدمة نسبيًا، لا يزال يعتمد على مناهج وأساليب تعليمية تعزز القوالب الجندرية التقليدية. فالكتب المدرسية، على سبيل المثال، غالبًا ما تحتوي على صور نمطية تضع الفتيات في أدوار نمطية مثل الأمهات أو المربيات، بينما تضع الفتيان في أدوار القوة والقيادة. هذه القوالب تعزز الفروق الجندرية وتعيد إنتاج التصورات الاجتماعية حول دور المرأة في المجتمع.
“سقف الزجاج” التعليمي
قد تجد النساء اللواتي حصلن على تعليم متقدم أنفسهن ما زلن يواجهن تحديات لا تقل صعوبة عن تلك التي واجهتها النساء غير المتعلمات. هنا يأتي مفهوم “سقف الزجاج”، وهو عبارة عن حواجز غير مرئية تمنع النساء من الوصول إلى المناصب القيادية أو تحقيق النجاح المهني الكامل، رغم توفر جميع المؤهلات. بمعنى آخر، يمكن أن يُستخدم التعليم ليس كوسيلة للتحرر، بل كأداة لضبط حدود ما يُسمح للمرأة بتحقيقه.
مع ذلك، لا يمكن إنكار أن التعليم يلعب دورًا مهمًا في دفع عجلة التغيير الاجتماعي. فعلى الرغم من أن النظام التعليمي لا يزال متشابكًا مع النظام البطريركي، إلا أن التعليم قد مكّن العديد من النساء من كسر القوالب التقليدية، والانخراط في حركات نسوية وحقوقية تدعو إلى إصلاح الأنظمة التعليمية من الداخل. الفتيات المتعلمات اليوم هنّ اللواتي سيعملن غدًا على تغيير المناهج التعليمية ليعكس واقعًا أكثر عدالةً للجميع.
التعليم.. خطوة نحو التمكين أم أداة للهيمنة؟
المرأة في العالم العربي، كما في أجزاء كثيرة من العالم، تواجه معضلة مزدوجة. فمن جهة، يعد التعليم الطريق الأكثر وضوحًا نحو التمكين والاستقلالية. ومن جهة أخرى، يمكن أن يكون التعليم نفسه مسرحًا لإعادة إنتاج الأنماط البطريركية بشكل معقد. هذه المفارقة لا تُحل إلا بتغيير جذري في طبيعة النظام التعليمي والمناهج الدراسية، لتكون أكثر حساسية للقضايا الجندرية، وأقل ارتباطًا بالأدوار التقليدية.
إذًا، التعليم يُعد سيفًا ذو حدين. هو أداة للتحرر والانفتاح الفكري، لكنه في الوقت نفسه قد يكون أداة لإعادة إنتاج الأفكار البطريركية بطرق دقيقة وغير واضحة. الحل لا يكمن في إلغاء التعليم أو حتى تقليصه، بل في إعادة صياغته ليكون أكثر شمولية وعدالة، ليصبح حقًا وسيلة للتحرر من الأنظمة التقليدية وليس وسيلة لتثبيتها.
التحرر الحقيقي عبر التعليم لا يقتصر فقط على إتاحة الفرصة للنساء لدخول المؤسسات التعليمية، بل في إصلاح تلك المؤسسات ذاتها. يجب أن تُعاد صياغة المناهج الدراسية، ويجب تدريب المعلمين ليكونوا واعين بالقضايا الجندرية، ويتم إدماج النساء في صنع القرار التعليمي. فقط حينها يمكن للتعليم أن يصبح فعلاً أداة للتحرر، وليس لإعادة إنتاج النظام البطريركي.
المرأة والتعليم رحلة معقدة وطويلة، محفوفة بالفرص والعراقيل في آن واحد. إذا كان التعليم هو المفتاح لتحرير المرأة من القيود المجتمعية، فإنه يحتاج إلى أن يُستعمل بشكل صحيح، في بيئة تعليمية تساهم في بناء وعي جندري متقدم، يُعزز من حقوق المرأة ويكسر الحواجز التي تحول دون تحقيقها لكامل إمكانياتها.