Spread the love

مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، يتكرر مشهد الحملات الانتخابية التي تتركز بشكل شبه حصري على مجموعة محددة من الولايات، رغم أن عدد الناخبين في البلاد يتجاوز 160 مليونًا، ورغم أن بعض الولايات الكبرى مثل كاليفورنيا ونيويورك وفلوريدا تمتلك أعدادًا ضخمة من الأصوات. هذا التركيز على “الولايات المتأرجحة” يثير تساؤلات حول طبيعة النظام الانتخابي الأمريكي ومدى تأثيره على مخرجات الانتخابات، حيث لا يحدد الفائز بناءً على عدد الأصوات الشعبية، بل عبر المجمع الانتخابي الذي يمنح الولايات الصغيرة والمتوسطة تأثيرًا يفوق وزنها الديموغرافي الحقيقي.

منذ تأسيس النظام الفيدرالي الأمريكي، تم تصميم المجمع الانتخابي لضمان تمثيل متوازن بين الولايات، لكن هذا النظام خلق مفارقات كبرى على مدار التاريخ، حيث شهدت الانتخابات الأمريكية عدة مرات فوز مرشحين لم يحصلوا على العدد الأكبر من الأصوات الشعبية، كما حدث مع جورج بوش الابن في عام 2000 ودونالد ترامب في 2016. والسبب في ذلك أن المرشح الفائز بأكثرية أصوات ولاية ما يحصل على جميع مندوبيها في المجمع الانتخابي، مما يعني أن المنافس قد يحصل على ملايين الأصوات دون أن يكسب أي نقاط فعلية في السباق الرئاسي.

هذا النظام يجعل الحملات الانتخابية تدور حول “الولايات المتأرجحة”، وهي الولايات التي لا تملك ولاءً ثابتًا لأي من الحزبين الرئيسيين. ولايات مثل بنسلفانيا، ميشيغن، ويسكونسن، جورجيا، وأريزونا، تمتلك عددًا متوسطًا من الأصوات في المجمع الانتخابي، لكن أهميتها الاستراتيجية تكمن في تقلب ميولها السياسية بين الانتخابات، مما يجعلها ساحة المعركة الحقيقية بين الديمقراطيين والجمهوريين. في المقابل، الولايات الكبرى مثل كاليفورنيا ونيويورك تصوت بشكل تقليدي للديمقراطيين، بينما تميل تكساس وفلوريدا للجمهوريين، مما يجعل إنفاق الموارد هناك أقل جدوى من التركيز على الولايات التي قد تحسم النتيجة.

إحدى المعضلات الكبرى التي تواجه النظام الانتخابي الأمريكي هي أن هذا التركيز الشديد على الولايات المتأرجحة قد يحول الانتخابات الرئاسية إلى سباق محلي أكثر منه وطني، حيث تُهمل قضايا تهم الناخبين في ولايات محسومة، ويجري التركيز على قضايا ذات طابع محلي في الولايات المتأرجحة، مثل صناعة السيارات في ميشيغن أو قضايا الهجرة في أريزونا. هذا الوضع يجعل بعض الأمريكيين يشعرون أن أصواتهم لا تملك نفس التأثير الذي يملكه الناخب في ولاية متأرجحة، وهو ما يثير دعوات متزايدة لإصلاح النظام الانتخابي واعتماد التصويت الشعبي المباشر، رغم صعوبة تحقيق ذلك سياسيًا بسبب المصالح الحزبية الراسخة.

تظل الانتخابات الأمريكية واحدة من أكثر العمليات الانتخابية تعقيدًا وتأثيرًا على مستوى العالم، ليس فقط بسبب طبيعة النظام الفيدرالي، ولكن أيضًا نتيجة لتراكم العوامل التاريخية التي جعلت بعض الولايات تمتلك نفوذًا يفوق حجمها السكاني. وبالرغم من أن هذه الانتخابات تشهد دائمًا منافسة شرسة بين الحزبين الرئيسيين، فإن الغموض الذي يلف نتيجة السباق غالبًا ما يتمحور حول “الولايات المتأرجحة”، والتي تتحول إلى ساحة لمعركة سياسية وإعلامية واقتصادية ضخمة، حيث يتم توجيه الجزء الأكبر من ميزانيات الدعاية والاستطلاعات والتعبئة الحزبية.

هذا التباين في النفوذ بين الولايات الكبرى والمتأرجحة يؤثر بشكل مباشر على السياسات العامة في الولايات المتحدة، حيث يضطر المرشحون إلى تبني أجندات تلبي احتياجات الناخبين في هذه الولايات على حساب قضايا وطنية أشمل. فمثلًا، يتم التركيز في ميشيغن على مستقبل صناعة السيارات والوظائف المرتبطة بها، في حين تأخذ قضايا الأمن والهجرة الأولوية في أريزونا وتكساس. هذه الديناميكية تدفع بالأحزاب السياسية إلى تعديل خطاباتها وبرامجها الانتخابية وفقًا لما يريده الناخبون في الولايات الحاسمة، وهو ما يخلق حالة من التفاوت في التمثيل السياسي داخل البلاد.

كما أن تأثير الولايات المتأرجحة يمتد إلى تشكيل هوية الأحزاب السياسية نفسها. ففي السنوات الأخيرة، بدأ الحزب الديمقراطي يتجه أكثر نحو التركيز على قضايا العدالة الاجتماعية والتغير المناخي، استجابة للناخبين في الولايات الساحلية والليبرالية، لكنه يجد نفسه مضطرًا إلى إعادة صياغة خطابه حين يتوجه إلى ولايات مثل ويسكونسن وبنسلفانيا حيث القضايا الاقتصادية والعمالية أكثر أهمية. بالمثل، يضطر الحزب الجمهوري إلى تعديل مواقفه في بعض القضايا مثل حقوق الإجهاض والتجارة الخارجية في ولايات مثل جورجيا ونورث كارولينا للحفاظ على جاذبيته أمام شرائح أوسع من الناخبين.

إضافة إلى ذلك، فإن النظام الانتخابي الحالي يعزز من قوة أصوات الناخبين في الولايات المتأرجحة، مما يجعل بعض الأمريكيين يشعرون بالتهميش السياسي. ففي حين أن ملايين الناخبين في كاليفورنيا أو تكساس قد يدلون بأصواتهم لمرشح معين، فإن تأثيرهم على النتيجة النهائية قد يكون أقل من تأثير بضعة آلاف من الناخبين في ولاية صغيرة مثل ويسكونسن. هذا التفاوت يُفسر لماذا تبدو الانتخابات الرئاسية الأمريكية وكأنها تُحسم بقرار عدد محدود من الأفراد في أماكن محددة، ما يثير التساؤلات حول عدالة النظام الانتخابي وإمكانية إصلاحه في المستقبل.

ومما يزيد من تعقيد المشهد هو التأثير المتزايد لوسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي على الحملات الانتخابية، حيث يتم استهداف الناخبين في الولايات المتأرجحة بحملات دعائية مخصصة بدقة، مستندة إلى تحليلات بيانات ضخمة، مما يجعل المنافسة أكثر حدة وأقل شفافية. كما أن تصاعد الاستقطاب السياسي يجعل الانتخابات الأمريكية تتخذ طابعًا أكثر تصادمية، حيث لم يعد الأمر مجرد منافسة بين رؤى سياسية مختلفة، بل أصبح معركة وجودية بين تيارين متناقضين تمامًا، وهو ما قد يؤدي إلى اضطرابات سياسية واجتماعية حتى بعد إعلان النتائج.

وبالنظر إلى كل هذه العوامل، يمكن القول إن الانتخابات الأمريكية ليست مجرد سباق ديمقراطي عادي، بل هي اختبار معقد لقدرة النظام السياسي الأمريكي على التكيف مع تحديات العصر، في ظل انقسامات داخلية عميقة وصراع مستمر بين القوى المتصارعة داخل الحزبين الكبيرين. ومع اقتراب موعد الاقتراع، سيبقى التركيز منصبًا على الولايات المتأرجحة، التي لا تعكس فقط مصير الانتخابات، بل تشكل في جوهرها مستقبل الولايات المتحدة نفسها.

الأجواء السياسية في انتخابات 2024 تبدو أكثر استقطابًا من أي وقت مضى، خاصة مع احتمال أن تكون المواجهة بين دونالد ترامب ونائبة الرئيس كامالا هاريس، وسط مشهد انتخابي يطغى عليه التشكيك في نزاهة الانتخابات من جانب ترامب، وقلق الديمقراطيين من تصويت منخفض في بعض قواعدهم الانتخابية. وإذا كانت التجربة السابقة قد أثبتت أن الفائز في الولايات المتأرجحة غالبًا ما يكون الفائز بالانتخابات، فإن التركيز على هذه الولايات سيظل السمة الأبرز للحملات الانتخابية الأمريكية، التي لم تعد تحسمها أصوات ملايين الناخبين، بل حسابات دقيقة في عدد محدود من الولايات التي تحمل مفتاح البيت الأبيض.


“بعمق” زاوية أسبوعية سياسية تحليلية على “شُبّاك” يكتبها رئيس التحرير: مالك الحافظ

error: Content is protected !!