تجد إيران نفسها أمام واحدة من أكثر المراحل حساسية في تاريخ مفاوضاتها النووية، حيث باتت فرصة الحل الدبلوماسي محدودة، وفق تصريحات وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، بعد زيارة أجراها مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافاييل غروسي، إلى طهران. رغم التلميحات إلى إمكانية التوصل إلى تفاهم، فإن الخطاب الصادر عن المسؤولين الإيرانيين يشير إلى أن عام 2024 قد يكون عامًا مفصليًا في مسار الملف النووي، خاصة مع اقتراب الانتخابات الأمريكية واحتمال عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
التوترات بين طهران والغرب حول البرنامج النووي ليست جديدة، لكن مستوى الأزمة الحالية يعكس تعقيد المشهد الدولي، حيث تسعى إيران إلى الحفاظ على مكاسبها النووية التي حققتها منذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي في 2018، بينما تحاول القوى الغربية احتواء تقدمها في تخصيب اليورانيوم، والذي بلغ 60%، وهو مستوى قريب من العتبة اللازمة لتطوير سلاح نووي.
مارك فيتزباتريك، الباحث في شؤون عدم الانتشار النووي في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن، يرى أن “إيران تدرك أن الوقت ليس في صالحها إذا كانت تبحث عن اتفاق جديد بشروط محسنة، فالغرب أصبح أقل تسامحًا مع سياسة المماطلة التي تنتهجها طهران”. لكنه يضيف أن “الإيرانيين يلعبون بورقة الوقت، وينتظرون نتيجة الانتخابات الأمريكية، لأن عودة ترامب قد تعني نهاية أي مفاوضات دبلوماسية”.
زيارة مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافاييل غروسي، إلى طهران جاءت في لحظة حاسمة، حيث تسعى الوكالة إلى الحصول على التزام إيراني بعدم زيادة تخصيب اليورانيوم أو توسيع أنشطتها النووية. لكن تصريحات عراقجي عقب الزيارة أظهرت أن إيران ليست مستعدة لتقديم تنازلات جوهرية، خصوصًا مع التهديد الذي أطلقه حول “اتخاذ تدابير جديدة” في حال صدور أي قرار ضدها من مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
نرجس باقري، الباحثة في العلاقات الدولية بجامعة طهران، ترى أن “إيران تستخدم أسلوب الضغط التصاعدي، فهي توصل رسائل مفادها أن أي خطوة ضدها ستقابل بتصعيد في البرنامج النووي، مما يضع الدول الغربية في موقف حرج بين تشديد العقوبات أو محاولة إحياء مسار المفاوضات”.
ما الذي تغير منذ انسحاب ترامب من الاتفاق النووي؟
انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي في 2018 كان نقطة التحول الكبرى في الملف النووي الإيراني، إذ دفع طهران إلى التخلي عن كثير من التزاماتها وزيادة مستوى تخصيب اليورانيوم. منذ ذلك الحين، نجحت إيران في تحقيق تقدم تقني واضح في مجال أجهزة الطرد المركزي، كما زادت من قدرتها على تخصيب اليورانيوم إلى مستويات غير مسبوقة، مما جعلها أقرب من أي وقت مضى إلى امتلاك القدرة على إنتاج سلاح نووي، وهو ما ترفضه إيران رسميًا.
وتوضح باقري أن “إيران أصبحت اليوم في وضع أقوى من حيث البرنامج النووي، لكنها في الوقت نفسه أكثر عزلة دبلوماسية، وهو ما يجعل أي اتفاق مستقبلي أكثر تعقيدًا”. ويضيف أن “إيران قد تراهن على عدم تحرك الولايات المتحدة عسكريًا ضدها، لكنها تعلم أن أي مواجهة مباشرة ستجعلها تواجه عواقب لا يمكن التنبؤ بها”.
إحدى أبرز المخاوف الإيرانية تتمثل في احتمال عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، حيث من المرجح أن يعيد فرض سياسة “الضغوط القصوى”، التي استهدفت إيران بعقوبات اقتصادية غير مسبوقة خلال ولايته الأولى. التصريحات الإيرانية تعكس إدراك طهران أن الانتخابات الأمريكية قد تقلب موازين القوى في الملف النووي، مما يدفعها إلى المناورة لكسب الوقت وعدم تقديم أي تنازلات حتى تتضح صورة المشهد السياسي في واشنطن.
باهر قاسميان، الباحث السياسي في مركز الدراسات الاستراتيجية الإيرانية، يرى أن “إيران تراهن على أن إدارة بايدن لن تكون قادرة على فرض عقوبات مشددة في الأشهر القادمة بسبب انشغالها بالانتخابات، لكنها تستعد في الوقت نفسه لسيناريو المواجهة إذا عاد ترامب إلى الحكم”.
الخيار العسكري: هل أصبح مطروحاً بقوة؟
مع استمرار تصعيد إيران في برنامجها النووي، بدأ الحديث في الدوائر الغربية والإسرائيلية عن احتمال اللجوء إلى الخيار العسكري لمنع إيران من تطوير سلاح نووي. إسرائيل، التي تعتبر امتلاك إيران لسلاح نووي تهديدًا وجوديًا، صعّدت من خطابها في الأشهر الأخيرة، مشيرة إلى أن جميع الخيارات، بما في ذلك الضربات العسكرية، مطروحة على الطاولة.
لكن خيار الضربة العسكرية يحمل مخاطر كبيرة، حيث يمكن أن يؤدي إلى تصعيد إقليمي واسع يشمل الخليج العربي وربما يؤدي إلى إغلاق مضيق هرمز، وهو ما قد يسبب أزمة اقتصادية عالمية بسبب تأثيره على إمدادات النفط.
الجنرال عاموس غلعاد، الرئيس السابق لشعبة الأبحاث في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، أكد في تصريحات صحفية أن “إسرائيل لن تسمح لإيران بالوصول إلى نقطة اللاعودة نوويًا، وإذا لم يتحرك المجتمع الدولي، فقد نتحرك بمفردنا”.
في المقابل، تواصل طهران التأكيد على أن برنامجها النووي سلمي بالكامل، وأنها لا تسعى إلى امتلاك أسلحة نووية، لكن هذه التأكيدات لم تعد تقنع الغرب، خاصة بعد سلسلة الإجراءات التي اتخذتها إيران منذ 2019، والتي جعلتها تتجاوز القيود التي فرضها الاتفاق النووي لعام 2015.
إيران أمام سيناريوهات صعبة
بين الدبلوماسية والمواجهة، تجد إيران نفسها أمام سيناريوهات صعبة، حيث تسعى للحفاظ على مكاسبها النووية دون أن تدفع الغرب نحو اتخاذ إجراءات أكثر تشددًا ضدها. ومع اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية، يبقى الملف النووي الإيراني رهينة للمتغيرات السياسية الدولية، حيث يمكن أن تؤدي التطورات القادمة إلى إعادة تشكيل المشهد بالكامل.
الدكتور هادي علاف، الباحث في الشؤون الدولية، يرى أن “الملف النووي الإيراني في مرحلة حرجة، حيث يمكن أن يؤدي أي خطأ في الحسابات إلى تصعيد غير محسوب، سواء من قبل إيران أو من قبل القوى الغربية”.
في ظل تصاعد التوترات، تبدو الفرصة المتبقية للدبلوماسية محدودة، لكن لم يتم إغلاق الباب بالكامل. إيران لا تزال تراهن على إمكانية التوصل إلى تفاهم يمنحها مكاسب اقتصادية دون تقديم تنازلات جوهرية، في حين تسعى القوى الغربية إلى منعها من الوصول إلى مستوى تخصيب يتيح لها تصنيع سلاح نووي.
الأسابيع المقبلة ستكون حاسمة في تحديد مصير الملف النووي الإيراني، سواء من خلال استمرار المفاوضات ومحاولة إنقاذ الاتفاق النووي، أو من خلال تصعيد جديد قد يأخذ المنطقة إلى سيناريو أكثر خطورة. والسؤال الأهم: هل ستتمكن الدبلوماسية من تحقيق انفراجة قبل فوات الأوان، أم أن المواجهة أصبحت أمرًا لا مفر منه؟