في عالم يشهد أزمة مياه متفاقمة، غالبًا ما يركز النقاش العام على ندرة المياه الصالحة للشرب، وانخفاض منسوب الأنهار، والتصحر. لكن ما يغيب عن الأذهان هو أن استهلاك المياه لا يقتصر فقط على ما نشربه أو نستخدمه مباشرة في منازلنا، بل يمتد إلى كل شيء نأكله أو نرتديه أو نستخدمه يوميًا، عبر مفهوم يُعرف بـ “المياه الافتراضية”. هذه المياه غير المرئية مخبأة في إنتاج السلع الزراعية والصناعية، وتشكل ضغطًا هائلًا على الموارد الطبيعية، خاصة في الدول التي تعاني من ندرة المياه. ومع تزايد الطلب على الغذاء والمنتجات الصناعية، تتفاقم أزمة المياه الافتراضية، ما يضع الأمن المائي العالمي أمام تحديات غير مسبوقة.
يعود مصطلح “المياه الافتراضية” إلى كمية المياه المستخدمة في إنتاج السلع والخدمات. فعلى سبيل المثال، إنتاج كوب واحد من القهوة يتطلب حوالي 140 لترًا من المياه، بينما يحتاج إنتاج كيلوغرام واحد من لحم البقر إلى ما يقارب 15 ألف لتر، تشمل المياه المستخدمة في ري الأعلاف التي تتغذى عليها الأبقار، والمياه المستهلكة في عمليات التربية والتصنيع. تم تطوير هذا المفهوم لأول مرة في التسعينيات على يد الباحث البريطاني جون أنتوني آلان، الذي لاحظ أن استهلاك الدول لا يقتصر فقط على المياه المحلية، بل يمتد عبر المنتجات المستوردة التي تتطلب كميات هائلة من المياه في إنتاجها. منذ ذلك الحين، أصبح تحليل المياه الافتراضية أداة أساسية لفهم مدى تأثير الأنماط الاستهلاكية على الأمن المائي العالمي.
كيف تؤثر المياه الافتراضية على الأمن المائي العالمي؟
مع ازدياد الطلب على الغذاء والمنتجات الصناعية، تتفاقم أزمة المياه الافتراضية، خاصة في الدول التي تصدر كميات كبيرة من المنتجات الزراعية. البرازيل والولايات المتحدة والصين من أكبر مصدري المياه الافتراضية في العالم، حيث تصدر كميات ضخمة من السلع الزراعية مثل فول الصويا واللحوم والحبوب، والتي تتطلب استهلاكًا هائلًا من المياه. في المقابل، تعاني دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، التي تستورد كميات كبيرة من الغذاء، من “استيراد المياه الافتراضية”، حيث تعتمد على دول أخرى لتوفير المنتجات التي لا يمكنها إنتاجها محليًا بسبب نقص المياه. مصر، على سبيل المثال، تستورد معظم احتياجاتها من القمح، مما يجعلها تعتمد على المياه المستخدمة في زراعة هذه المحاصيل في الخارج، بينما تعاني من نقص شديد في الموارد المائية المحلية.
يؤكد الدكتور عماد السالمي، أستاذ إدارة الموارد المائية بجامعة الجزائر، أن المياه الافتراضية أصبحت عنصرًا حاسمًا في الأمن المائي للدول، حيث تحدد كمية المياه المستخدمة في الإنتاج الزراعي مدى قدرة الدول على تحقيق الاكتفاء الذاتي أو حاجتها إلى استيراد المزيد من الغذاء، مما يزيد من تعرضها لصدمات الأسعار العالمية والجفاف.
على المستوى القطاعي، يعد القطاع الزراعي المستهلك الأكبر للمياه الافتراضية، حيث تشير تقارير منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) إلى أن أكثر من 70% من المياه العذبة المستهلكة عالميًا تُستخدم في الري الزراعي. ومع ذلك، لا تتم إدارة هذه الموارد بكفاءة في كثير من الدول، حيث تُهدر كميات هائلة من المياه بسبب تقنيات الري غير الفعالة والتبخر والتسرب. أما في القطاع الصناعي، فتستهلك الصناعات الثقيلة كميات ضخمة من المياه الافتراضية، خاصة في إنتاج الملابس، والورق، والإلكترونيات. إنتاج زوج واحد من الجينز، على سبيل المثال، يتطلب حوالي 8 آلاف لتر من المياه، بينما يحتاج هاتف ذكي واحد إلى أكثر من 12 ألف لتر خلال عمليات التصنيع والتبريد والتنظيف.
يرى الدكتور زياد المصري، الباحث في الاستدامة الصناعية بجامعة بيروت، أن العديد من الشركات العالمية بدأت في إدراك أهمية تقليل استهلاك المياه الافتراضية، لكن لا يزال هناك الكثير من العمل لتحقيق إنتاج أكثر استدامة، خاصة في الصناعات التي تعتمد على المياه بشكل مكثف.
كيف يمكن الحد من استهلاك المياه الافتراضية؟
مع تزايد أزمة ندرة المياه، أصبحت الحاجة إلى تبني استراتيجيات لتقليل استهلاك المياه الافتراضية أكثر إلحاحًا. تحسين تقنيات الري يمثل أحد الحلول الفعالة، حيث يمكن للتحول إلى أنظمة الري بالتنقيط بدلاً من الري بالغمر أن يقلل استهلاك المياه في الزراعة بنسبة تصل إلى 50%. كما أن تشجيع الزراعة المستدامة من خلال زراعة المحاصيل التي تحتاج إلى كميات أقل من المياه، مثل الحبوب المقاومة للجفاف، يمكن أن يقلل الضغط على الموارد المائية. في القطاع الصناعي، أصبحت إعادة تدوير المياه في عمليات التصنيع ضرورية، حيث بدأت بعض الشركات الكبرى في استخدام تقنيات لإعادة استخدام المياه داخل مصانعها، مما يقلل الحاجة إلى استخراج كميات جديدة من المياه. بالإضافة إلى ذلك، فإن وعي المستهلكين بأهمية اختيار المنتجات التي تتطلب كميات أقل من المياه في إنتاجها، مثل تقليل استهلاك اللحوم أو شراء الملابس المصنوعة من أقمشة صديقة للبيئة، يمكن أن يكون له تأثير كبير على تقليل استهلاك المياه الافتراضية على مستوى عالمي.
في المنطقة العربية، حيث تعاني معظم الدول من ندرة المياه، أصبح تحليل المياه الافتراضية أداة أساسية لتحديد أولويات الإنتاج والاستيراد. في السعودية، بدأت الحكومة في الحد من زراعة المحاصيل كثيفة الاستهلاك للمياه، مثل القمح والأرز، والاعتماد على الاستيراد بدلاً من ذلك، مما يقلل الضغط على مواردها المائية الشحيحة. في الأردن، تم إطلاق مشاريع لتقليل الفاقد من المياه في الزراعة والصناعة، بينما تعمل الإمارات على تطوير استراتيجيات لاستخدام المياه المعالجة في الري، بدلاً من استخدام المياه الجوفية.
يقول الدكتور نزار العبيدي، الخبير في سياسات المياه بجامعة بغداد، إن الدول العربية بحاجة إلى تغيير جذري في سياسات إدارة المياه، بحيث يتم التركيز على تقليل استهلاك المياه الافتراضية من خلال تحسين كفاءة الزراعة والصناعة، وتشجيع المواطنين على تبني أنماط استهلاك أكثر وعيًا بالمياه.
في ظل تزايد الضغط على الموارد المائية عالميًا، أصبح من الضروري إعادة النظر في كيفية استهلاك المياه الافتراضية، سواء من خلال تغيير أنماط الإنتاج، أو تبني تقنيات جديدة لتقليل الهدر، أو تعديل السياسات الزراعية والصناعية بما يتناسب مع محدودية الموارد المائية. السؤال المطروح اليوم هو: هل يمكن للعالم تحقيق توازن بين تلبية احتياجاته الاقتصادية والغذائية، وبين الحفاظ على موارده المائية للأجيال القادمة؟ إذا لم يتم اتخاذ إجراءات جادة، فإن استنزاف المياه سيصبح تهديدًا أكبر من أي وقت مضى، وسيؤثر بشكل مباشر على الأمن الغذائي والاقتصادي لملايين البشر حول العالم.