في ظل التحذيرات المتزايدة من أزمة المياه العالمية، لم يعد الحديث عن ندرة المياه في المنطقة العربية مجرد تنبؤ مستقبلي، بل أصبح واقعاً يومياً يهدد ملايين السكان. من المغرب إلى العراق، ومن الخليج إلى وادي النيل، تعاني دول المنطقة من انخفاض حاد في الموارد المائية، نتيجة للتغيرات المناخية، وسوء إدارة المياه، والنمو السكاني المتزايد. بينما تتسابق بعض الدول لاعتماد حلول تكنولوجية مكلفة مثل تحلية المياه، لا تزال دول أخرى غير قادرة على مجاراة التحديات، ما يثير تساؤلات حول مستقبل الأمن المائي في العالم العربي، ومدى قدرة الحكومات على تجنب كارثة وشيكة.
تشير تقارير البنك الدولي إلى أن أكثر من 12 دولة عربية تُصنف ضمن قائمة الدول الأكثر فقراً بالمياه في العالم، حيث انخفض متوسط نصيب الفرد من المياه العذبة إلى أقل من 500 متر مكعب سنوياً في بعض الدول، وهو أقل بكثير من الحد الأدنى الذي تحدده الأمم المتحدة لمستوى ندرة المياه المطلقة. في الأردن، على سبيل المثال، تراجع نصيب الفرد من المياه إلى أقل من 100 متر مكعب سنوياً، ما يجعله واحداً من أكثر البلدان معاناة من أزمة ندرة المياه. في المقابل، تواجه مصر تحدياً كبيراً بسبب انخفاض تدفق مياه نهر النيل، الذي يمثل المصدر الرئيسي للمياه في البلاد، حيث أظهرت دراسات وزارة الموارد المائية المصرية أن معدل تدفق النهر انخفض بنسبة 15% خلال العقد الماضي، وهو ما يهدد الزراعة التي تعتمد على النيل بشكل أساسي.
في العراق، أصبح دجلة والفرات، اللذان كانا يوصفان بأنهما شريان الحياة للبلاد، يواجهان خطر الجفاف المتزايد، حيث أظهرت صور الأقمار الصناعية انخفاضاً ملحوظاً في منسوب المياه نتيجة لبناء السدود في تركيا وإيران، فضلاً عن التغيرات المناخية التي قللت من معدلات هطول الأمطار. هذه الأزمة أدت إلى هجرة العديد من المزارعين من مناطق الجنوب العراقي، بعدما باتت أراضيهم غير صالحة للزراعة بسبب الملوحة المرتفعة وانخفاض مستويات المياه الجوفية.
يقول الدكتور عمار الحاجي، أستاذ الموارد المائية في جامعة بغداد، إن “العراق يواجه خطر الجفاف في العديد من مناطقه الجنوبية، حيث انخفضت التدفقات المائية لدجلة والفرات بنسبة 40% في السنوات العشرين الماضية”. ويرى أن السياسات المائية الإقليمية وعدم وجود اتفاقيات واضحة بين العراق والدول المجاورة قد فاقمت من الأزمة، مطالباً بضرورة تبني حلول دبلوماسية إلى جانب الاعتماد على تقنيات أكثر تطوراً في إدارة الموارد المائية.
تحلية المياه: حل مستدام أم خيار مكلف؟
مع تفاقم أزمة المياه، بدأت بعض الدول العربية، وخاصة دول الخليج، في تبني مشاريع تحلية مياه البحر كحل رئيسي لتعويض النقص الحاد في الموارد الطبيعية. وفقاً لتقرير صادر عن “المركز الدولي لتحلية المياه”، فإن السعودية والإمارات وقطر من بين أكبر الدول استثماراً في تكنولوجيا تحلية المياه، حيث تغطي هذه العملية أكثر من 60% من احتياجات المياه في بعض المناطق الخليجية. لكن هذا الحل لا يخلو من مشكلات، إذ أن تحلية المياه تُعد من أكثر العمليات استهلاكاً للطاقة، وهو ما يجعلها خياراً مكلفاً على المدى البعيد.
في المغرب، بدأ العمل على مشروع تحلية مياه البحر في الدار البيضاء، وهو واحد من أكبر مشاريع تحلية المياه في القارة الإفريقية، لكنه يواجه تحديات مالية وتقنية قد تؤثر على سرعة إنجازه. بينما تواجه تونس عقبات في توسيع مشاريع التحلية، بسبب محدودية الموارد المالية اللازمة لإنشاء محطات جديدة، وهو ما يجعلها أكثر اعتماداً على المياه الجوفية، التي بدأت مستوياتها في الانخفاض بشكل مقلق.
يؤكد الدكتور عبد الرحمن الطرابلسي، خبير الاقتصاد البيئي في جامعة تونس، أن “تحلية المياه قد تكون حلاً فعالاً، لكنها ليست خياراً مثالياً لجميع الدول، بسبب تكلفتها العالية وتأثيرها البيئي السلبي، حيث تنتج كميات هائلة من المياه المالحة الملوثة التي يتم إلقاؤها في البحار، مما يؤثر على النظم البيئية البحرية”. ويرى أن الحل الأمثل يكمن في تبني استراتيجيات متكاملة تشمل تحسين كفاءة استخدام المياه، وتطوير أساليب الري الذكية، إلى جانب الاستثمار في تحلية المياه كمكمل وليس كحل رئيسي.
إلى جانب العوامل السياسية والاقتصادية، يلعب التغير المناخي دوراً أساسياً في تفاقم أزمة المياه في المنطقة. تقارير الأمم المتحدة تشير إلى أن ارتفاع درجات الحرارة بمعدل 1.5 درجة مئوية منذ بداية القرن الحالي أدى إلى زيادة معدلات التبخر وتقليل كميات الأمطار في العديد من الدول العربية. في اليمن، الذي يعتمد على الأمطار لتغذية خزاناته الجوفية، تسبب تراجع معدلات الهطول في انخفاض مستويات المياه الجوفية في بعض المناطق إلى مستويات غير مسبوقة، مما أدى إلى تفاقم الأزمة الإنسانية في البلاد.
في السودان، تسبب التغير المناخي في زيادة موجات الجفاف والفيضانات في آن واحد، حيث أصبح من الصعب التنبؤ بأنماط هطول الأمطار، مما يؤثر سلباً على الزراعة والإمدادات المائية. يوضح الدكتور أحمد زين العابدين، الباحث في المناخ والبيئة في جامعة الخرطوم، أن “التغير المناخي جعل من الصعب التخطيط المستقبلي لإدارة المياه في العديد من الدول العربية، لأن أنماط الأمطار لم تعد مستقرة، وهو ما يفرض الحاجة إلى سياسات مائية أكثر مرونة وتكيفاً مع الظروف المتغيرة”.
الحلول الممكنة: بين السياسات الحكومية والتعاون الإقليمي
أمام هذا الواقع المتفاقم، بدأت بعض الدول العربية في تبني سياسات جديدة لمواجهة أزمة المياه. في مصر، تم إطلاق مشروع “حياة كريمة” الذي يشمل تطوير محطات معالجة مياه الصرف الصحي وتحسين البنية التحتية لشبكات المياه، بهدف تقليل الفاقد المائي وزيادة كفاءة الاستخدام. في السعودية، تم الإعلان عن مبادرات لترشيد استهلاك المياه، من بينها فرض معايير أكثر صرامة على استخدام المياه في الزراعة، وتقليل الهدر في القطاع الصناعي.
لكن الحلول المحلية وحدها لا تكفي، إذ أن أزمة المياه في المنطقة تحتاج إلى تعاون إقليمي أوسع. في السنوات الأخيرة، ظهرت مبادرات للتعاون المائي بين بعض الدول، مثل الاتفاقيات بين الأردن وإسرائيل حول تبادل المياه مقابل الطاقة الشمسية، لكنها لا تزال مبادرات محدودة لا ترقى إلى مستوى الأزمة. يرى الدكتور جيرار يوسف، أستاذ القانون البيئي في جامعة بيروت العربية، أن “التعاون الإقليمي في إدارة الموارد المائية يجب أن يكون أولوية قصوى، لأن المياه لا تعرف الحدود السياسية، وأي حل مستدام يجب أن يشمل سياسات إقليمية واضحة تتضمن إدارة مشتركة للأحواض المائية، وتبادل المعلومات، وتجنب أي إجراءات أحادية قد تؤثر على الأمن المائي لدول الجوار”.
رغم خطورة أزمة المياه في العالم العربي، لا تزال السياسات المتبعة غير كافية لمواجهة التحديات المتزايدة. وبينما تستثمر بعض الدول في تحلية المياه أو مشروعات إعادة التدوير، فإن الحلول طويلة الأمد يجب أن تكون أكثر شمولاً، من خلال تبني استراتيجيات متكاملة تشمل تحسين إدارة الموارد، وتطوير البنية التحتية، وتعزيز التعاون الإقليمي والدولي. في ظل هذه التحديات، يبقى السؤال: هل سيتحرك العالم العربي بجدية لمواجهة أزمة المياه قبل أن تتحول إلى كارثة لا رجعة فيها؟