رغم التطور العلمي الهائل الذي شهده العصر الحديث، لا يزال تأثير النبوءات الدينية قائماً في مجتمعات كثيرة. البعض يرى في هذه التنبؤات دليلاً على وجود قوى فوق طبيعية تحكم التاريخ، بينما يرى آخرون أنها مجرد تفسيرات مرنة للأحداث يمكن تطويعها لتناسب أي زمن. لكن لماذا تستمر النبوءات القديمة في التأثير على الناس، حتى في عصر العقل والعلم؟
سواء كانت تتعلق بنهاية العالم، أو بظهور مخلص، أو بعودة زعيم غائب، فقد لعبت النبوءات دوراً كبيراً في تشكيل الوعي الجمعي للبشرية. ولكن مع تزايد قدرتنا على تحليل الظواهر الطبيعية والتاريخية، هل يمكننا القول إن هذه النبوءات لا تزال تحمل أي قيمة حقيقية؟ أم أنها مجرد أدوات سياسية ونفسية تعيد إنتاج نفسها وفق حاجات المجتمعات؟
منذ أقدم العصور، كانت الحضارات البشرية تحاول فهم المستقبل، مستعينةً بالكهنة، والعرافين، والفلكيين. في مصر القديمة، اعتمد الفراعنة على كهنة المعابد لتحديد الأوقات المناسبة للحروب والزراعة. في بابل، كانت قراءة النجوم والتنبؤ بالكوارث جزءاً أساسياً من ثقافة الدولة.
لكن النبوءات لم تكن دائماً مجرد تنبؤات طبيعية، بل امتزجت غالباً بالدين والسياسة. فمع ظهور الأديان الكبرى، أصبحت النبوءات جزءاً من الكتب المقدسة، حيث ربطت مصير البشرية بإرادة إلهية محددة.
يقول باسل فوزي، الباحث في علم الأديان، إن “النبوءات لم تكن مجرد محاولات لمعرفة المستقبل، بل كانت أداة لبناء الهوية الجماعية. فعندما يؤمن الناس بأن هناك قدراً محتوماً ينتظرهم، فإن ذلك يمنحهم إحساساً بالمعنى والتوجيه، حتى لو لم تتحقق تلك النبوءات”.
النبوءات في الأديان: بين الأمل والخوف
في اليهودية، تُعد نبوءات الأنبياء محوراً أساسياً للعقيدة، خاصة فيما يتعلق بالمسيح المنتظر وعودة إسرائيل. في المسيحية، لعبت نبوءات العهد القديم دوراً مهماً في تشكيل الاعتقاد بأن يسوع هو المسيح الموعود. أما في الإسلام، فإن الأحاديث النبوية والتفسيرات القرآنية تتحدث عن علامات الساعة، والمسيح الدجال، وعودة المهدي المنتظر.
ورغم أن هذه النبوءات قد مضى عليها مئات أو آلاف السنين، فإنها لا تزال تلعب دوراً كبيراً في تشكيل الفكر الديني والسياسي في بعض المجتمعات. فقد شهدت بعض الفترات التاريخية ظهور شخصيات ادعت أنها تحقق النبوءات القديمة، مما أدى إلى تحولات اجتماعية وسياسية كبرى.
من المثير للاهتمام أن كثيراً من النبوءات يتم تفسيرها بعد وقوع الأحداث، مما يجعلها تبدو وكأنها تحققت فعلاً. في كثير من الأحيان، يتم إسقاط النبوءات على أحداث سياسية أو اجتماعية بطريقة تجعلها تبدو وكأنها صحيحة، حتى لو لم تكن كذلك في الأصل.
يقول جلال البكري، الباحث في علم الاجتماع، إن “هناك ظاهرة تُعرف بالتحقيق الذاتي للنبوءة، حيث يتصرف الناس بطرق تجعل النبوءات تتحقق لأنهم يؤمنون بها. فعلى سبيل المثال، إذا آمنت جماعة معينة بأن نهاية العالم قريبة، فقد تبدأ في التصرف بشكل يؤدي إلى خلق الفوضى، مما يجعل الأمور تبدو وكأن النبوءة تتحقق”.
السياسة والنبوءات: كيف تُستخدم في التلاعب الجماهيري؟
لم تقتصر النبوءات على الدين فقط، بل دخلت أيضاً في السياسة. فقد استُخدمت النبوءات في تبرير الحروب، والثورات، والصراعات بين الأمم. في العصور الوسطى، استُخدمت نبوءات دينية لإضفاء الشرعية على الحملات الصليبية، وفي العصر الحديث، استُغلت بعض التفسيرات الدينية لتبرير سياسات معينة في الشرق الأوسط وأماكن أخرى.
حتى في الأنظمة الحديثة التي يفترض أنها علمانية، لا تزال هناك نبوءات غير دينية تتخذ طابعاً مشابهاً، مثل التنبؤات الاقتصادية حول انهيار الأسواق، أو نظريات المؤامرة حول النظام العالمي الجديد.
يقول أحمد الطيب، أستاذ العلوم السياسية، إن “النبوءات ليست مجرد توقعات دينية، بل هي أدوات قوية للتأثير في الجماهير. السياسيون يدركون جيداً أن الخوف من المستقبل يمكن أن يكون وسيلة فعالة للسيطرة على الناس، ولذلك يستخدمون هذه النبوءات سواء بشكل مباشر أو غير مباشر لتحقيق أهدافهم”.
في عصر المعلومات والذكاء الاصطناعي، حيث يمكننا التنبؤ بالطقس، والكوارث الطبيعية، وحتى السلوك البشري إلى حد ما، لا يزال هناك إقبال كبير على النبوءات الدينية والخرافية. لماذا يستمر هذا الأمر؟
إحدى التفسيرات هي أن النبوءات تقدم إحساساً باليقين في عالم معقد ومضطرب. الإنسان بطبيعته يبحث عن معنى، وعندما يكون المستقبل غير واضح، فإن اللجوء إلى النبوءات يمنحه شعوراً بالتحكم ولو بشكل وهمي.
يقول الدكتور هيثم زيدان، الباحث في علم النفس، إن “الإيمان بالنبوءات يرتبط بالخوف من المجهول. عندما يشعر الناس بعدم الأمان، فإنهم يكونون أكثر ميلاً لتصديق أي شيء يمنحهم إحساساً بأن الأمور تحت السيطرة، حتى لو كان ذلك عبر نبوءات قديمة لا دليل على صحتها”.
هل سنشهد مستقبلاً خالياً من النبوءات؟
رغم أن التقدم العلمي والتكنولوجي قد جعل العالم أكثر قدرة على التنبؤ بالمستقبل باستخدام البيانات والتحليل العلمي، فإن النبوءات لا تزال تلعب دوراً رئيسياً في تشكيل المجتمعات. في بعض الأحيان، قد تختفي النبوءات الدينية التقليدية، لكن يتم استبدالها بنبوءات سياسية أو علمية أو حتى خيالية تتخذ طابعاً دينياً غير معلن.
وربما يكون السؤال الأهم هنا ليس ما إذا كانت النبوءات صحيحة أم لا، بل لماذا يحتاج البشر دائماً إلى تصديقها. هل يعود ذلك إلى طبيعتنا النفسية التي تبحث عن معنى في كل شيء؟ أم أن النبوءات، بغض النظر عن صحتها، ستظل جزءاً من الثقافة البشرية لأنها تلعب دوراً اجتماعياً لا يمكن تجاوزه؟
قد يكون العالم الحديث أكثر تطوراً من أي وقت مضى، لكن يبدو أن الحاجة إلى النبوءات لا تزال قائمة. سواء كانت دينية أو سياسية أو اقتصادية، فإن البشر لا يزالون يبحثون عن إشارات لما هو قادم، حتى عندما يكون المستقبل غير مكتوب.
في النهاية، ربما تكون النبوءات مجرد مرايا تعكس مخاوفنا ورغباتنا، أكثر مما تعكس أي حقيقة موضوعية عن المستقبل. لكن ما هو مؤكد، أن تأثيرها لم يتراجع بعد، وربما لن يتراجع أبداً، طالما أن الإنسان لا يزال يطرح السؤال الأزلي: ماذا سيحدث غداً؟