هل استطاعت التكنولوجيا حقًا تمكين النساء العربيات ومنحهن مساحة للتعبير، أم أن الفضاء الرقمي أصبح امتدادًا جديدًا للقمع الذي تواجهه المرأة في الواقع؟ هل يمكن اعتبار وسائل التواصل الاجتماعي أداة لتحرير المرأة، أم أنها تحولت إلى ساحة للتحرش والتشهير والعنف الإلكتروني؟
في العقد الأخير، شهدت منصات التواصل الاجتماعي طفرة كبيرة في مشاركة النساء، حيث أصبحت مساحة مفتوحة للتعبير عن الرأي، والنقاش في قضايا المرأة، وتحدي الصور النمطية التي ترسخت لعقود. استطاعت العديد من النساء العربيات استغلال الفضاء الرقمي لتحقيق نجاحات كبيرة في مجالات الإعلام، وريادة الأعمال، والنشاط الحقوقي، وصنع المحتوى.
وفقًا لتقرير صادر عن “الاتحاد العربي للإعلام الرقمي” عام 2023، فإن نسبة النساء الناشطات على وسائل التواصل الاجتماعي في العالم العربي زادت بنسبة 35% خلال السنوات الخمس الأخيرة، مما يشير إلى تحول كبير في دور المرأة في المجال العام.
الناشطة الرقمية المصرية داليا السعيد، التي تدير منصة إلكترونية للدفاع عن حقوق المرأة، ترى أن “السوشيال ميديا منحت النساء قوة غير مسبوقة. اليوم، يمكن لأي امرأة أن تنشئ منصة خاصة بها، وأن تصل إلى مئات الآلاف من المتابعين دون الحاجة إلى إذن أو رقابة. هذه الحرية لم تكن متاحة في السابق، حيث كان الإعلام التقليدي يتحكم في من يُسمح له بالتحدث ومن يتم تهميشه”.
لكن هل هذه الحرية المطلقة تعني أن الفضاء الرقمي خالٍ من القيود والتحديات؟
العنف الإلكتروني: الوجه الآخر للحرية الرقمية
رغم الفرص التي وفرتها التكنولوجيا، إلا أن النساء الناشطات على الإنترنت يواجهن تهديدات مستمرة، تتراوح بين التحرش اللفظي، والتشهير، والابتزاز، وصولًا إلى التهديدات بالقتل والاغتصاب. تشير دراسة صادرة عن منظمة الأمم المتحدة للمرأة عام 2022 إلى أن 72% من النساء العربيات الناشطات على الإنترنت تعرضن لشكل من أشكال العنف الإلكتروني، وهو معدل أعلى من المتوسط العالمي.
في بعض الحالات، يتم استغلال الفضاء الرقمي لإسكات النساء الناشطات في القضايا النسوية أو الحقوقية. العديد من النساء اللواتي يعبّرن عن آرائهن في قضايا حساسة مثل حقوق المرأة، أو الحريات الشخصية، أو النقد السياسي، يتعرضن لحملات ممنهجة تهدف إلى تشويه سمعتهن أو دفعهن إلى الانسحاب من المشهد العام.
تقول الصحفية اللبنانية رُبى شمس الدين، التي تعرضت لحملة تشويه على مواقع التواصل الاجتماعي بسبب تغطيتها لقضايا العنف ضد النساء، إن “التحرش الإلكتروني لا يختلف عن العنف الواقعي، بل هو أكثر خطورة أحيانًا، لأنه يمكن أن يصل إلى أي امرأة في أي وقت، دون الحاجة إلى مواجهتها بشكل مباشر. العديد من النساء يتراجعن عن المشاركة في المجال العام بسبب هذه التهديدات، مما يعني أن الفضاء الرقمي لم يكن تحرريًا بالكامل كما كنا نأمل”.
القوانين والتشريعات: حماية غائبة أم تواطؤ صامت؟
رغم تصاعد العنف الإلكتروني ضد النساء، لا تزال التشريعات في معظم الدول العربية غير قادرة على توفير حماية فعلية للضحايا. القوانين المتعلقة بالتحرش الإلكتروني، أو التشهير الرقمي، أو الابتزاز عبر الإنترنت، إما غير موجودة، أو غير مفعّلة بالشكل الكافي. في العديد من الحالات، تواجه النساء صعوبات كبيرة في إثبات تعرضهن للعنف الرقمي، خاصة مع ضعف آليات التبليغ والرقابة القانونية.
الخبيرة القانونية التونسية نهى بلحسن، المتخصصة في قوانين الجرائم الإلكترونية، ترى أن “معظم القوانين العربية لم يتم تحديثها لتواكب التحديات الرقمية. حتى في الحالات التي تُرفع فيها قضايا ضد المتحرشين إلكترونيًا، فإن العقوبات غالبًا ما تكون خفيفة أو غير رادعة، مما يجعل العنف الإلكتروني مستمرًا بلا عواقب حقيقية”.
في المقابل، هناك بعض الدول التي بدأت في اتخاذ خطوات جدية لمكافحة العنف الإلكتروني ضد النساء. المغرب، على سبيل المثال، أقرّ قانونًا خاصًا بمكافحة العنف الرقمي، يتضمن عقوبات مشددة على التشهير والابتزاز الإلكتروني. في السعودية، تم إدراج التحرش الإلكتروني ضمن الجرائم التي يعاقب عليها القانون بالسجن والغرامة. لكن هذه القوانين لا تزال تواجه تحديات في التنفيذ، حيث تظل كثير من الحالات بلا محاسبة فعلية.
إلى جانب العنف الإلكتروني، تواجه النساء في الفضاء الرقمي شكلًا آخر من التهديد، يتمثل في المراقبة والرقابة على المحتوى الذي ينشرنه. في العديد من الدول العربية، يتم استهداف الناشطات والمؤثرات عبر قوانين فضفاضة تتعلق بالأخلاق العامة أو “الإساءة إلى القيم المجتمعية”، حيث يتم اتهامهن بإثارة الفتنة أو نشر محتوى غير لائق، رغم أن ما ينشرنه غالبًا لا يتعدى كونه تعبيرًا عن الرأي أو محتوى إبداعيًا.
الناشطة الحقوقية الأردنية مها السلمان تشير إلى أن “النساء في الفضاء الرقمي يتم استهدافهن بطريقة لا يتعرض لها الرجال. عندما يتحدث رجل عن قضية سياسية أو اجتماعية، يتم التعامل مع رأيه كوجهة نظر، أما عندما تتحدث امرأة عن نفس القضايا، فإنها تُهاجم على أساس شخصي، ويتم التشكيك في نواياها وسلوكها”.
في بعض الدول، يتم استخدام قوانين الجرائم الإلكترونية لقمع الناشطات، حيث يتم استدعاؤهن للتحقيق، أو حظر حساباتهن، أو فرض رقابة على المحتوى الذي ينشرنه. هذا يجعل الفضاء الرقمي، الذي من المفترض أن يكون مساحة حرة للتعبير، يتحول إلى ساحة أخرى للمراقبة والضغط على النساء.
هل يمكن للفضاء الرقمي أن يكون أكثر أمانًا للنساء؟
رغم التحديات، لا تزال هناك جهود مستمرة لجعل الفضاء الرقمي أكثر أمانًا وإنصافًا للنساء. بعض المنظمات الحقوقية بدأت في تقديم تدريبات حول الحماية الرقمية للنساء، وتعليمهن كيفية التعامل مع التهديدات الإلكترونية، وتأمين حساباتهن ضد الاختراق أو الابتزاز.
كذلك، بدأت بعض منصات التواصل الاجتماعي في اتخاذ إجراءات للحد من العنف الإلكتروني، مثل تفعيل أدوات لحظر الحسابات المسيئة، والإبلاغ عن التحرش الرقمي، وتحسين أنظمة الذكاء الاصطناعي لكشف المحتوى الضار. لكن هذه الحلول لا تزال محدودة، ولا توفر حماية شاملة لجميع النساء الناشطات على الإنترنت.
تقول الباحثة في مجال التكنولوجيا والإعلام لمياء العابد إن “التكنولوجيا ليست عدوًا للنساء، لكنها تحتاج إلى سياسات أكثر عدالة لحمايتهن. إذا لم يكن هناك تشريعات واضحة، وآليات محاسبة قوية، فإن الفضاء الرقمي سيظل بيئة غير آمنة للنساء، وسيؤدي إلى مزيد من الإقصاء والتهميش”.
بين التمكين والقمع، يبدو أن الفضاء الرقمي يعكس التناقضات التي تعيشها المرأة في العالم الحقيقي. التكنولوجيا منحت النساء فرصًا جديدة، لكنها في الوقت نفسه كشفت عن أشكال جديدة من العنف والتضييق.
السؤال الذي يبقى مفتوحًا: هل يمكن أن يتحول الفضاء الرقمي إلى مساحة أكثر أمانًا وإنصافًا للنساء، أم أنه سيظل امتدادًا آخر للبنية الذكورية التي تسعى إلى تقييد أصوات النساء وإبقائهن على هامش المشهد العام؟