لماذا كلما ظهرت مطالبات بإصلاح قوانين المرأة في العالم العربي، تواجه بردّ فعل عنيف من التيارات المحافظة؟ هل المشكلة في الخطاب النسوي، أم أن المجتمعات العربية ليست مستعدة لتغيير جذري في منظومة الحقوق الجندرية؟ هل يمكن تحقيق إصلاحات نسوية دون الدخول في صدام مباشر مع المؤسسة الدينية والعقلية التقليدية، أم أن المواجهة حتمية؟
رغم أن العقود الماضية شهدت تقدمًا في بعض التشريعات المتعلقة بحقوق النساء، إلا أن المد المحافظ لا يزال يمثل عقبة أساسية أمام أي إصلاح حقيقي. في عدة دول عربية، كلما تم اقتراح قوانين تحمي النساء، مثل تجريم العنف الأسري أو تعديل قوانين الأحوال الشخصية، ارتفعت الأصوات المعارضة التي تعتبر هذه الإصلاحات تهديدًا “للبنية التقليدية للأسرة”.
في مصر، على سبيل المثال، واجه مشروع قانون يهدف إلى تجريم ضرب الزوجات معارضة شديدة من رجال دين وبرلمانيين محافظين، معتبرين أنه “يخالف تعاليم الإسلام”، رغم أن الأزهر نفسه أصدر بيانات تدين العنف ضد النساء. في العراق، أُجهضت محاولات تعديل قانون الأحوال الشخصية لصالح النساء بسبب ضغوط الأحزاب الدينية. أما في الأردن، فقد تعرضت ناشطات نسويات لحملات تشويه وتهديدات بعد مطالبتهن بإلغاء المادة 308 من قانون العقوبات، التي كانت تسمح للمغتصب بالإفلات من العقوبة إذا تزوج ضحيته.
تقول الباحثة اللبنانية منى العطار، المتخصصة في علم الاجتماع السياسي، إن “المد المحافظ في العالم العربي ليس مجرد تيار فكري، بل هو منظومة متكاملة تعمل على ترسيخ السلطة الذكورية. لذلك، أي محاولة لتغيير القوانين التي تحكم حياة النساء تواجه مقاومة شديدة، لأن الأمر لا يتعلق فقط بالتشريع، بل بهيكل اجتماعي مبني على التمييز الجندري”.
هل النسوية تواجه أزمة خطاب؟
أحد أبرز الانتقادات التي تُوجّه للحركات النسوية في العالم العربي هو أنها تُقدّم خطابًا “تصادميًا” مع القيم الدينية والاجتماعية، مما يجعلها تفقد تأييد شرائح واسعة من المجتمع، خاصة في المناطق المحافظة.
لكن الناشطة التونسية نسرين زواوي، التي شاركت في حملات تعديل قوانين الأحوال الشخصية، ترى أن “هذه مجرد حجة تُستخدم لتشويه الحراك النسوي. الحقيقة أن النسوية ليست معادية للدين، لكنها ترفض استخدام الدين كذريعة لاستمرار التمييز. المشكلة ليست في الخطاب النسوي، بل في المجتمعات التي تريد إبقاء النساء في وضع التبعية”.
في المقابل، يرى بعض الباحثين أن الحركات النسوية العربية بحاجة إلى تطوير خطاب أكثر تفاعلية، بحيث لا يُنظر إليها على أنها “مستوردة من الغرب”، بل جزء من التطور الاجتماعي الطبيعي في المنطقة. في هذا السياق، تحاول بعض النسويات تقديم مقاربة “نسوية إسلامية”، تستند إلى النصوص الدينية نفسها للدفاع عن حقوق المرأة، لكن هذا التيار يواجه بدوره انتقادات من الجانبين، حيث يعتبره المحافظون تهديدًا للبنية التقليدية، بينما ترى بعض النسويات الراديكاليات أنه مجرد “محاولة للالتفاف على القضايا الجوهرية”.
بين السلطة الدينية والسلطة السياسية: من يقود الهجوم على النسوية؟
المد المحافظ في العالم العربي لا يعتمد فقط على الخطاب الديني، بل يجد دعمه في الأنظمة السياسية التي تستخدمه كأداة لضبط المجتمع. في بعض الدول، يتم الترويج للمفاهيم التقليدية حول دور المرأة عبر وسائل الإعلام الرسمية، والمناهج الدراسية، والخطاب السياسي، بهدف تكريس صورة المرأة كـ “عمود الأسرة”، الذي يجب أن يخضع لسلطة الرجل حفاظًا على “تماسك المجتمع”.
في السعودية، ورغم الإصلاحات الكبيرة التي شهدتها البلاد في مجال حقوق المرأة، لا تزال بعض القيود قائمة نتيجة لضغط رجال الدين المحافظين، الذين يرون أن منح المرأة حقوقًا متساوية قد يؤدي إلى “تفكيك الأسرة”. في المغرب، أُحبطت محاولات تعديل قوانين الإرث لتصبح أكثر إنصافًا للنساء، بعد حملة معارضة قوية من الأحزاب الإسلامية.
يقول الخبير المغربي في الفكر الإسلامي عبد الرحمن القداش إن “الصراع بين النسوية والمد المحافظ ليس مجرد صراع قانوني، بل هو معركة على هوية المجتمع. التيارات المحافظة تعتبر أن أي إصلاح نسوي هو استيراد لقيم غربية تتناقض مع ‘الهوية الإسلامية’، بينما في الواقع، العديد من هذه الإصلاحات موجودة بالفعل في تاريخ الفقه الإسلامي، لكنها خضعت لاحقًا لتفسيرات أكثر تشددًا”.
مع تصاعد المعارضة للإصلاحات النسوية، أصبح السؤال الأكثر إلحاحًا هو: هل يمكن تحقيق تغيير فعلي دون الدخول في مواجهة مباشرة مع التيارات المحافظة؟ البعض يرى أن الحل يكمن في استراتيجيات تدريجية تعتمد على التوعية، وتقديم نماذج ناجحة للنساء في مواقع القيادة، بدلًا من التركيز على المواجهة السياسية المباشرة.
في السودان، وبعد سقوط نظام عمر البشير، بدأت الحركات النسوية في الدفع باتجاه إلغاء قوانين الأحوال الشخصية المقيدة، لكن هذه الجهود واجهت مقاومة كبيرة من القوى الإسلامية المتشددة. في الجزائر، كانت الحركات النسوية أكثر نجاحًا في إدخال تعديلات تدريجية على قانون الأسرة، بدلًا من محاولة تغييره بشكل جذري دفعة واحدة.
ترى الباحثة الأردنية رهام الكيلاني أن “التغيير الحقيقي لا يأتي فقط من القوانين، بل من المجتمع نفسه. إذا لم يكن هناك وعي جماهيري واسع بدور المرأة وحقوقها، فإن أي قانون يتم تمريره قد يظلّ مجرد نصّ غير مُفعّل على أرض الواقع”.
بين مطالبات الحركات النسوية ورفض التيارات المحافظة، يبدو أن الصدام حول حقوق النساء في العالم العربي سيظل قائمًا لفترة طويلة. لكن التجارب السابقة تُظهر أن التغيير، رغم بطئه، يظلّ ممكنًا، خاصة عندما يكون هناك ضغط شعبي متزايد باتجاه الإصلاح.
لكن السؤال الأكبر يظلّ مفتوحًا: هل يمكن تحقيق إصلاحات حقيقية دون الدخول في مواجهة مباشرة مع القوى المحافظة، أم أن أي تغيير جذري يتطلب بالضرورة كسر البنية التقليدية للمجتمع، حتى لو كان الثمن هو صدام طويل الأمد؟