Spread the love

كيف يمكن لحركة تهدف إلى تحقيق العدالة والمساواة أن تُواجَه بقدرٍ كبيرٍ من العداء في المجتمعات العربية؟ هل يعود الأمر إلى تفسيرات مغلوطة، أم أن النسوية ذاتها بحاجة إلى مراجعة لخطابها وأساليبها؟ إلى أي مدى يمكن للنسوية أن تتأقلم مع الخصوصية الثقافية دون أن تفقد جوهرها كحركة مناهضة للتمييز؟

النسوية في العالم العربي لم تكن مجرد تيار فكري هامشي، بل كانت دائمًا في صلب الحراك الاجتماعي والسياسي. منذ أوائل القرن العشرين، لعبت النساء العربيات دورًا بارزًا في المطالبة بالحقوق السياسية والاجتماعية، إلا أن العقبات التي واجهتها هذه الحركة لا تزال قائمة حتى اليوم. على الرغم من أن هناك تقدمًا ملحوظًا في بعض الدول، فإن القيم التقليدية والهياكل الاجتماعية لا تزال تُشكل جدارًا صلبًا أمام تحول حقيقي.

وفقًا لتقرير صادر عن منظمة الأمم المتحدة للمرأة عام 2022، فإن نحو 80% من النساء في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يواجهن شكلاً من أشكال التمييز القانوني أو الاجتماعي. التقرير يشير إلى أن القوانين المقيدة للأحوال الشخصية، والقيود المفروضة على حرية التعبير، إضافة إلى التأثيرات الدينية والسياسية، تُشكل العوائق الأساسية أمام تطور النسوية في المنطقة.

هل الخصوصية الثقافية مبرر لتعطيل النسوية؟

أحد أبرز الانتقادات التي تُوجه إلى النسوية في العالم العربي هي أنها تُعد حركة مستوردة، بعيدة عن الواقع المحلي، وتحمل أجندات غربية لا تتناسب مع خصوصية المجتمعات العربية. هذه الرؤية، التي روج لها الإعلام التقليدي وبعض المؤسسات الدينية، ساهمت في بناء حاجز نفسي واجتماعي بين النسوية والجمهور العريض.

لكن الناشطة النسوية الجزائرية سعاد بن خليل، الباحثة في الدراسات الاجتماعية، ترفض هذه الفرضية، معتبرة أن “الحديث عن النسوية كحركة مستوردة هو محاولة لتشويه مطالبها الحقيقية. الحركات النسوية نشأت داخل السياقات العربية منذ أوائل القرن العشرين، وقضايا المرأة في المنطقة ليست بحاجة إلى تأطير خارجي، بل إلى فهم حقيقي لاحتياجاتها في ظل مجتمعات ذكورية تُعيد إنتاج التمييز بآليات مختلفة”.

في المقابل، يرى بعض المفكرين أن النسوية العربية بحاجة إلى تطوير خطاب أكثر تفاعلًا مع البُعد الثقافي والديني، بحيث لا يتم تصويرها كحركة معادية للموروثات، بل كقوة تسعى لإعادة تفسيرها بما يتناسب مع مبادئ العدالة والمساواة.

أمام التحديات التي تواجهها النسوية العربية، ظهرت تيارات تدعو إلى ما يُعرف بـ “النسوية الإسلامية”، والتي تسعى إلى تحقيق العدالة الجندرية من داخل الإطار الديني، وليس من خارجه. هذه الحركة تؤكد أن القيم الإسلامية نفسها تتضمن مبادئ إنصاف المرأة، لكن المشكلة تكمن في التفسيرات الذكورية التي تم فرضها عبر التاريخ.

تشير الباحثة التونسية آسية المنصري، المختصة في دراسات المرأة والدين، إلى أن “النسوية الإسلامية قدّمت بدائل فكرية حقيقية، لكنها في كثير من الأحيان عالقة بين الرفض القاطع من قبل النسويات التقليديات، والتهميش من قبل المؤسسات الدينية. رغم ذلك، فإنها تظلّ إحدى الأدوات القادرة على إحداث اختراق في المجتمعات المحافظة، حيث يمكنها أن تُعيد صياغة مفاهيم المساواة من داخل المرجعية الدينية، دون أن تواجه الرفض الاجتماعي العنيف”.

لكن هل يمكن لهذا التيار أن يكون بديلاً للحركات النسوية الأخرى، أم أنه يظل مجرد محاولة للالتفاف على الواقع القاسي الذي تعيشه النساء العربيات؟

على الرغم من المقاومة الشديدة التي تواجهها النسوية، فإن السنوات الأخيرة شهدت تطورًا ملحوظًا في مدى تقبل المجتمعات العربية لبعض مطالبها. العديد من الدول العربية شهدت إصلاحات قانونية لصالح النساء، سواء في مجالات حقوق الطلاق، حق العمل، أو حتى الحماية من العنف الأسري.

لكن هذا لا يعني أن الطريق أصبح أكثر سلاسة. تقرير صادر عن منظمة العفو الدولية عام 2023 أشار إلى أن هناك تصاعدًا في الخطاب المناهض للنسوية في وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، حيث يتم تصوير النسويات على أنهن يعملن ضد الأسرة والمجتمع، وهو ما ساهم في خلق بيئة عدائية تجاههن.

يقول عالم الاجتماع المغربي نبيل الإدريسي إن “المجتمعات الذكورية ليست على استعداد للتخلي عن امتيازاتها بسهولة. الحراك النسوي اليوم يواجه مقاومة أكثر شراسة، لكنها في الوقت نفسه دليل على أنه بدأ يُحدث تأثيرًا حقيقيًا. كل موجة مقاومة تُشير إلى أن هناك تغييرًا يحدث بالفعل، حتى لو كان بطيئًا”.

هل النسوية العربية قادرة على تجاوز أزماتها الداخلية؟

في ظل هذه التحولات، يظل السؤال مفتوحًا حول مستقبل النسوية في العالم العربي. هل ستتمكن من تجاوز الصدام مع الثقافة المحلية وتقديم نفسها كحركة قادرة على تحقيق التغيير من داخل المجتمع، وليس عبر استيراد النماذج الخارجية؟ أم أنها ستظل حبيسة في معركة دفاعية تُجهدها دون أن تحقق تقدمًا ملموسًا؟

الواقع يشير إلى أن النسوية العربية ليست كيانًا واحدًا، بل تتنوع بين تيارات مختلفة، بعضها يسعى إلى التغيير التدريجي عبر التشريعات والسياسات، وبعضها الآخر يؤمن بأن المواجهة المباشرة هي السبيل الوحيد لكسر قيود التقاليد والمجتمع الأبوي. في كلتا الحالتين، فإن المسألة ليست مجرد صراع فكري، بل معركة ممتدة تتداخل فيها الأبعاد الاجتماعية، الدينية، والسياسية.

مع مرور الوقت، سيكون على الحركات النسوية في العالم العربي أن تُعيد تقييم استراتيجياتها، وأن تُطور خطاباتها بما يضمن استمرارها كقوة تغيير، دون أن تفقد علاقتها بالمجتمع الذي تسعى لتغييره. والسؤال الذي يظل معلقًا: هل يمكن للنسوية أن تندمج في المجتمعات العربية دون أن تفقد جوهرها، أم أن المواجهة لا تزال حتمية في ظل واقع يرفض التغيير؟

error: Content is protected !!