الخميس. أكتوبر 17th, 2024

النسوية واللغة العربية.. كيف تعكس اللغة التمييز الجندري وتعيد إنتاجه؟

اللغة هي واحدة من أهم الأدوات التي تعكس وتعيد إنتاج التمييزات الاجتماعية والثقافية. تعد اللغة العربية، مثلها مثل غيرها من اللغات، جزءًا من النظام الاجتماعي الذي يعزز الهوية الجندرية ويعيد إنتاج التمييز الجندري. من خلال مفرداتها وتراكيبها النحوية، تعكس اللغة العربية التوجهات الثقافية التي تعطي الأولوية للرجال على حساب النساء. النسوية تسعى إلى تفكيك هذه الأنظمة اللغوية من أجل تحقيق المساواة الجندرية وتحرير النساء من الصور النمطية والأدوار التقليدية التي تُفرض عليهن عبر اللغة.

آليات التهميش والاختفاء

إحدى أبرز المظاهر الجندرية في اللغة العربية هي الهيمنة الذكورية في صياغة الألفاظ. في التراكيب اللغوية العربية، يغلب استخدام المذكر في الأسماء والأفعال، حيث يُستخدم المذكر للتعبير عن الجنسين في الجمل الجامعة التي تشمل الرجال والنساء. على سبيل المثال، عندما يُشير الحديث إلى مجموعة مختلطة من الرجال والنساء، يتم استخدام صيغة المذكر بشكل عام، مما يُهمش النساء في السياقات الجماعية ويجعل وجودهن غير مرئي لغويًا.

هذا الأسلوب اللغوي لا يعكس فقط التفضيل الثقافي للجنس الذكوري، بل يعزز أيضًا من هيمنة الرجل في المجتمع. النسويات يرون في هذا التوجه اللغوي أداة لتكريس السلطة الذكورية وإقصاء المرأة من الخطاب الرسمي والعام. ويعتبر غياب التأنيث عن الجمل التي تشمل الجنسين جزءًا من الآليات التي تعيد إنتاج النظام الأبوي وتحافظ على مكانة المرأة في مرتبة أدنى.

الألقاب والتعابير الجندرية: تأكيد الفروق والتفاوتات

اللغة العربية تحتوي أيضًا على العديد من الألقاب والتعابير التي تساهم في تعزيز الفروق الجندرية بين الرجل والمرأة. على سبيل المثال، يُطلق على الرجل الذي لم يتزوج بعد “أعزب”، بينما تُوصف المرأة غير المتزوجة بـ”عانس”. بينما يشير “أعزب” إلى حالة اجتماعية محايدة أو حتى إيجابية، فإن مصطلح “عانس” يحمل في طياته دلالة سلبية قوية، ما يُعزز من النظرة المجتمعية التي تُقلل من قيمة المرأة إذا لم تتزوج.

أيضًا، تتنوع الألقاب بين الجنسين فيما يتعلق بالوظائف والمهن، حيث يُضاف غالبًا “ة” التأنيث لتمييز المرأة عن الرجل، مثل “طبيبة” أو “مديرة”. في العديد من الحالات، يُعتبر اللقب المؤنث أقل سلطة أو أهمية مقارنة باللقب المذكر. هذه التفرقة اللغوية تُعيد إنتاج الأدوار الاجتماعية التقليدية وتُرسخ الفكرة التي تجعل النساء في مرتبة أدنى في مختلف مجالات الحياة.

إلى جانب التراكيب النحوية والمفردات، تلعب الأمثال الشعبية والتعابير اليومية دورًا كبيرًا في تشكيل صورة المرأة. اللغة العربية غنية بالأمثال التي تُكرس الأفكار النمطية حول دور المرأة. على سبيل المثال، تُستخدم بعض الأمثال للتقليل من شأن المرأة أو السخرية من أدوارها، مثل “حيثما وُجدت النساء، وُجدت الفتنة”، مما يعزز الصور السلبية للمرأة كعامل اضطراب وعدم استقرار.

هذه الأمثال تُعزز من الصور النمطية التي تجعل المرأة محصورة في أدوار محددة، مثل الأمومة أو الزوجة، وتضعف من استقلاليتها أو قدرتها على اتخاذ القرارات. تعزز هذه الأقوال الموروثة من الصورة التقليدية للمرأة وتضعها في إطار مقيد يُعيد إنتاج التمييز الجندري بشكل غير مباشر.

أستاذ اللغويات والنقد الثقافي، عبد الله النعيمي، يشير خلال حديثه لـ”شُبّاك” إلى أن اللغة، كما تُستخدم في أي مجتمع، هي انعكاس واضح للبنية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية السائدة. “اللغة العربية ليست استثناءً، بل هي جزء من نظام اجتماعي أبوي متجذر يعيد إنتاج التمييز الجندري من خلال مفرداتها وتراكيبها النحوية. إحدى المشكلات الأساسية هي هيمنة صيغة المذكر على الخطاب العام، مما يؤدي إلى تهميش النساء في الحياة العامة ويجعل وجودهن غير مرئي.”

وأضاف “هذه البنية اللغوية ليست فقط انعكاسًا للأدوار الاجتماعية، بل هي أيضًا وسيلة للحفاظ على هذه الأدوار وتثبيتها عبر الأجيال. عندما يتم استبعاد النساء من الخطاب اللغوي اليومي، يتم ترسيخ الفكرة التي تجعل الرجال هم الفاعلون الأساسيون في المجتمع، بينما تُهمش أدوار النساء أو تُحصر في سياقات ضيقة. النسوية اللغوية تقدم فرصة لإعادة صياغة اللغة بطريقة تعترف بالمرأة كفاعل متساوٍ في المجتمع، مما يمكن أن يؤثر إيجابيًا على الهياكل الاجتماعية والسياسية بشكل عام.”

دور النسوية في تفكيك اللغة

تعمل الحركات النسوية على تفكيك التمييز الجندري في اللغة العربية من خلال إعادة صياغة المفردات والجمل وتقديم نماذج لغوية جديدة تُعزز المساواة. على سبيل المثال، تُدافع النسويات عن استخدام اللغة الشاملة التي لا تهمش النساء في الخطاب العام. يتضمن ذلك الدعوة لاستخدام صيغ لغوية تشمل الجنسين، مثل الإشارة إلى “المواطنين والمواطنات” بدلًا من “المواطنين” فقط.

كما تُطالب النسويات بإعادة النظر في الألقاب والتعابير التي تحمل دلالات سلبية تجاه النساء. مثلًا، ينبغي استبدال الألقاب التي تُحقر من المرأة غير المتزوجة أو المطلقة بأخرى لا تحمل أي دلالة سلبية، حتى يتمكن النساء من الحصول على مكانة متساوية في المجتمع دون التعرض للتمييز اللغوي.

الباحثة في شؤون الجندر والدراسات الثقافية، سعاد عبد الرحمن، تقول خلال حديثها لـ”شُبّاك” بأن اللغة العربية تحتوي على العديد من الصور النمطية والمفردات التي تساهم في تهميش النساء وإعادة إنتاج التمييز الجندري. الألقاب مثل “عانس”، والتعبيرات اليومية التي تستخدم لتقليل قيمة المرأة غير المتزوجة أو التي لا تتبع المعايير الاجتماعية التقليدية، تعكس تحيزات اجتماعية عميقة. هذه المفردات لا تؤثر فقط على صورة المرأة في المجتمع، بل تؤثر أيضًا على تصور النساء لأنفسهن وقدرتهن على اتخاذ القرارات المتعلقة بحياتهن.

وتتابع “من المهم أن ندرك أن اللغة ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي أيضًا أداة للتأثير والسيطرة. إذا استمر استخدام اللغة الجندرية التي تهمش النساء، فإن ذلك سيعزز من استمرار التمييز الجندري في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. النسويات بحاجة إلى العمل ليس فقط على تغيير السياسات والقوانين، بل أيضًا على تغيير الخطاب اللغوي الذي يشكل الوعي الجمعي. إعادة بناء لغة شاملة تتجنب التمييز بين الجنسين هي خطوة مهمة نحو تحقيق المساواة الحقيقية.”

اللغة ليست فقط أداة للتواصل، بل هي أيضًا وسيلة للسيطرة والتأثير على الهياكل السياسية والاقتصادية في المجتمع. من خلال اللغة، يتم التحكم في طريقة التفكير وصياغة السياسات المتعلقة بالنساء. إذا كانت اللغة نفسها تعكس تمييزًا جندريًا، فإن السياسات التي تنتج عنها ستكون بالضرورة غير عادلة.

الحركات النسوية تدعو إلى ضرورة تحسين الخطاب السياسي والاقتصادي ليكون أكثر شمولية وعدالة تجاه النساء. يجب أن تتضمن السياسات والبرامج الحكومية لغة تعكس المساواة الجندرية، حتى يتمكن الجميع من المشاركة بشكل متساوٍ في الحياة العامة دون أن يُعاقبن بسبب تمييز لغوي.

اللغة العربية، مثل العديد من اللغات الأخرى، تُعزز التمييز الجندري من خلال تراكيبها ومفرداتها التي تفضل الرجال على النساء. النسوية تسعى إلى تفكيك هذه الأنظمة اللغوية وإعادة بنائها بطريقة تعزز المساواة والعدالة. من خلال استخدام لغة شاملة وغير تمييزية، يمكن للمجتمعات أن تخطو خطوة نحو تحقيق المساواة الجندرية، حيث يتم تحرير النساء من القيود اللغوية التي تعكس وتعيد إنتاج الهياكل الاجتماعية غير العادلة.

Related Post