في ظل تصاعد التوترات الأمنية في أوروبا، بات ملف الهجرة واللجوء يشهد مراجعات صارمة من قبل الحكومات الأوروبية، التي أصبحت تواجه تحدياً معقداً يتمثل في تحقيق التوازن بين الأمن والالتزامات الحقوقية. يأتي ذلك بعد سلسلة من الهجمات الإرهابية التي نفذها أفراد يحملون خلفيات مهاجرة، أبرزها الهجوم الذي وقع في بروكسل عندما قتل مسلح تونسي اثنين من مشجعي كرة القدم السويديين، إضافة إلى عملية الطعن في فرنسا التي نفذها شاب شيشاني، مما دفع الاتحاد الأوروبي إلى إعادة تقييم سياساته المتعلقة بقبول اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين.
خلال اجتماع وزراء داخلية الاتحاد الأوروبي في لوكسمبورغ، دعت المفوضة الأوروبية لشؤون الهجرة، إيلفا يوهانسون، إلى ضرورة التعامل بشكل أكثر سرعة وحزم مع المهاجرين الذين يشكلون تهديداً أمنياً، مشددة على أن عمليات الترحيل يجب أن تكون أكثر كفاءة، خاصة وأن أوروبا لم تتمكن حتى الآن سوى من إعادة 20% فقط من طالبي اللجوء المرفوضين.
يبرز في هذا السياق موقف فرنسا وبلجيكا، اللتين شهدتا مؤخراً هجمات استهدفت مدنيين، ما دفع مسؤوليهما إلى انتقاد ما وصفوه بالثغرات القانونية التي تمنع ترحيل الأفراد الذين يعتبرون “خطراً أمنياً محتملاً”. وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان، انتقد بطء الإجراءات الأوروبية في التعامل مع طلبات اللجوء، قائلاً: “لا يمكننا أن نسمح لأنفسنا بالمزيد من السذاجة. يجب علينا اتخاذ قرارات أسرع وأكثر حسماً”.
وفي بلجيكا، تساءل رئيس الوزراء ألكسندر دي كرو عن سبب بقاء المسلح التونسي الذي نفذ هجوم بروكسل داخل الاتحاد الأوروبي رغم رفض طلب لجوئه منذ سنوات. وقال دي كرو: “هذه ليست قضية قانونية فقط، بل تتعلق أيضاً بالإرادة السياسية لتطبيق القوانين بحزم أكبر”.
الهجرة غير الشرعية: أوروبا تسعى لشراكات مع دول العبور
إلى جانب تشديد الرقابة الداخلية، يتجه الاتحاد الأوروبي إلى تعزيز التعاون مع دول شمال إفريقيا، مثل تونس والمغرب ومصر، من خلال توقيع اتفاقيات تهدف إلى الحد من تدفق المهاجرين غير الشرعيين عبر البحر المتوسط. ويرى أنصار هذه السياسات أن عقد اتفاقيات مماثلة للاتفاق المبرم مع تركيا في 2016 يمكن أن يسهم في تقليل أعداد الوافدين غير الشرعيين، إلا أن هذه الاستراتيجية لا تزال محل جدل واسع.
الدكتور نيكولاس بيرسون، الباحث في السياسات الأوروبية، يرى أن هذه الاتفاقيات قد تكون ذات تأثير قصير المدى، لكنها لا تعالج الأسباب الجذرية للهجرة. ويقول: “الاتحاد الأوروبي يركز على الحد من التدفقات دون أن يقدم حلولاً مستدامة للمهاجرين. لا يمكن وقف الهجرة بالقوة فقط، بل يجب معالجة الأسباب التي تدفع الناس إلى المخاطرة بحياتهم للوصول إلى أوروبا”.
من ناحية أخرى، يرفض إدريس بن عمر، الباحث في قضايا الهجرة واللجوء، هذه المقاربة الأوروبية، قائلاً: “دول الاتحاد الأوروبي تحاول تصدير أزماتها الداخلية إلى دول الجنوب، لكنها لا تقدم دعماً حقيقياً لهذه الدول لمساعدتها في إدارة تدفقات الهجرة بطرق عادلة وإنسانية”. ويضيف أن “تونس والمغرب ومصر لا يمكنها لعب دور شرطي الهجرة لصالح أوروبا، خاصة إذا لم يتم تقديم استثمارات حقيقية لتحسين الأوضاع الاقتصادية في هذه الدول”.
التداعيات المحتملة للصراع في غزة: مخاوف أوروبية من موجات لجوء جديدة
إلى جانب التوتر الأمني الناجم عن العمليات الإرهابية، تزداد المخاوف في الأوساط الأوروبية من تداعيات الصراع في غزة، حيث يخشى مسؤولون أوروبيون من أن تؤدي الحرب إلى نزوح فلسطينيين بأعداد كبيرة إلى دول الجوار، مثل مصر والأردن، مما قد يؤدي إلى موجة جديدة من طلبات اللجوء داخل الاتحاد الأوروبي.
ويؤكد كريستيان هايدمان، الباحث في الشؤون الأمنية، أن أوروبا لم تستعد بشكل كافٍ لاحتمال حدوث موجة لجوء جديدة، قائلاً: “إذا استمرت الحرب لفترة طويلة، فإن الضغوط على الدول الأوروبية ستتزايد، خاصة في ظل تصاعد التوترات الداخلية بين الجاليات المسلمة واليهودية في بعض العواصم الأوروبية”.
تواجه أوروبا اليوم اختباراً حقيقياً في إدارة ملف الهجرة، حيث تتزايد الضغوط السياسية لاتخاذ إجراءات أكثر صرامة، في حين تحذر المنظمات الحقوقية من أن تشديد القوانين قد يؤدي إلى انتهاكات لحقوق الإنسان. ويشير تقرير صادر عن منظمة العفو الدولية إلى أن سياسات الاتحاد الأوروبي الجديدة قد تساهم في “إضفاء الطابع الأمني المفرط على قضايا اللجوء، مما قد يؤدي إلى معاملة غير عادلة للعديد من اللاجئين الفارين من مناطق الصراع”.
لكن، مع استمرار التهديدات الأمنية، يبدو أن التشدد في سياسات الهجرة بات أمراً لا مفر منه، وهو ما تلخصه تصريحات إيلفا يوهانسون، مفوضة شؤون الهجرة في الاتحاد الأوروبي، التي قالت: “نحتاج إلى سد الثغرات، وأن نكون أسرع وأكثر حسماً في عمليات الترحيل، فالأمن يجب أن يكون على رأس أولوياتنا”.
في ظل تصاعد التهديدات الإرهابية، وارتفاع أعداد المهاجرين غير الشرعيين، والضغوط السياسية الداخلية، يبدو أن أوروبا تتجه نحو إعادة النظر بشكل جذري في سياسات الهجرة واللجوء. ورغم أن القرارات الحاسمة لم تُتخذ بعد، فإن التحركات الجارية تشير إلى مرحلة جديدة من التشدد، قد تعيد رسم العلاقة بين الاتحاد الأوروبي والمهاجرين، وتعيد تحديد ملامح القيم التي يقوم عليها المشروع الأوروبي نفسه.
لكن، يبقى السؤال المطروح: هل تستطيع أوروبا تحقيق المعادلة الصعبة بين تأمين حدودها وحماية مبادئها الإنسانية؟ أم أن الهواجس الأمنية ستدفعها إلى التخلي عن التزاماتها الحقوقية، مما قد يؤدي إلى خلق أزمات جديدة أكثر تعقيداً في المستقبل؟