FILE PHOTO: Keir Starmer, leader of Britain's Labour party, reacts as he speaks at a reception to celebrate his win in the election, at Tate Modern, in London, Britain, July 5, 2024. REUTERS/Suzanne Plunkett/File Photo
Spread the love

شهدت بريطانيا تحولًا سياسيًا كبيرًا بعد فوز حزب العمال بزعامة كير ستارمر في الانتخابات البرلمانية، منهياً 14 عامًا من حكم المحافظين الذي تخللته أزمات اقتصادية وسياسية متلاحقة. ومع هذا الفوز الساحق، يواجه ستارمر وحكومته الجديدة تحديات صعبة تتعلق بالاقتصاد، ومستوى المعيشة، والهجرة، والعلاقة مع الاتحاد الأوروبي، فضلًا عن السياسة الخارجية البريطانية. فهل يمثل هذا التغيير نقطة تحول حقيقية في المشهد السياسي البريطاني، أم أنه مجرد تغيير في القيادة دون إحداث تغيير جوهري في السياسات؟

سجل حزب المحافظين أسوأ هزيمة انتخابية في تاريخه، حيث حصل على 117 مقعدًا فقط، بعد أن كان يحكم البلاد بأغلبية مطلقة. وأدت عدة عوامل إلى هذا السقوط المدوي، تفاقم التضخم وارتفاع أسعار الفائدة بشكل كبير، ما زاد من الأعباء الاقتصادية على البريطانيين. أيضا هناك فضائح سياسية متكررة بدءًا من استقالات بوريس جونسون المثيرة، وصولًا إلى الفوضى التي خلفتها ليز تراس بسياساتها الاقتصادية الكارثية.

كذلك ضعف الخدمات العامة؛ خاصة في مجال الصحة، حيث شهدت هيئة الخدمات الصحية الوطنية NHS أسوأ أزمة في تاريخها. إضافة إلى صعود اليمين المتطرف حيث نجح حزب الإصلاح بقيادة نايجل فاراج في جذب أصوات المحافظين الغاضبين، ما ساهم في تشتيت القاعدة الانتخابية للحزب.

بالرغم من فوز حزب العمال بـ410 مقاعد، إلا أن هذا الانتصار لم يكن بسبب إقبال جماهيري واسع على الحزب، بل نتيجة تراجع شعبية المحافظين. وتشير الاستطلاعات إلى أن الحزب لم يحقق نسبة التصويت التي حصل عليها في 2017 أو حتى 2019، ما يعكس أن الانتخابات كانت بمثابة تصويت عقابي ضد المحافظين أكثر من كونها تفويضًا قويًا للعمال.

يتسلم ستارمر الحكم في واحدة من أصعب الفترات الاقتصادية التي تمر بها بريطانيا منذ الحرب العالمية الثانية، حيث تواجه البلاد، معدلات ضرائب مرتفعة وصلت إلى أعلى مستوياتها منذ عقود، ديون حكومية متزايدة تعادل تقريبًا الناتج المحلي الإجمالي السنوي، تراجع مستويات المعيشة نتيجة التضخم المستمر وارتفاع الأسعار.

ورغم وعود ستارمر بإصلاح الاقتصاد، إلا أنه سيكون مقيدًا بقيود مالية ضخمة، ما سيجبره على اتخاذ قرارات صعبة، مثل تخفيض الإنفاق العام أو فرض ضرائب جديدة، وهو ما قد يؤثر على شعبيته مبكرًا.

تشكل أزمة الخدمات العامة، وخاصة قطاع الصحة NHS، أحد أكبر التحديات للحكومة الجديدة. يحتاج ستارمر إلى تنفيذ إصلاحات عاجلة لتحسين جودة الخدمات الصحية والتعليمية، لكنه قد يصطدم بميزانية محدودة ومعارضة قوية من الأوساط الاقتصادية إذا قرر زيادة الإنفاق الحكومي.

تعتبر قضية الهجرة أحد الملفات الساخنة التي أثرت على نتائج الانتخابات، حيث نجح حزب الإصلاح بقيادة فاراج في استغلال هذا الملف لجذب الناخبين المحافظين الساخطين. وتعهد ستارمر بإلغاء سياسة ترحيل طالبي اللجوء إلى رواندا التي كانت مثيرة للجدل في عهد المحافظين، لكنه في الوقت ذاته سيواجه ضغوطًا شعبية للحد من تدفق المهاجرين غير الشرعيين، خاصة القادمين عبر القناة الإنجليزية من فرنسا.

حصل حزب الإصلاح اليميني على أكثر من 4 ملايين صوت، ما يعكس تحولًا سياسيًا مشابهًا لما شهدته الانتخابات الأوروبية مؤخرًا، حيث صعدت الأحزاب اليمينية المتطرفة في فرنسا وألمانيا وهولندا. وإذا استمر العمال في اتباع سياسات هجرة متساهلة، فقد يزداد نفوذ الأحزاب اليمينية بشكل أكبر في الانتخابات القادمة.

رغم أن ستارمر كان معارضًا لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، إلا أنه أكد أن العودة إلى التكتل ليست مطروحة. ومع ذلك، يسعى إلى تحسين العلاقات مع بروكسل، خاصة فيما يتعلق بتخفيف التعقيدات التجارية وحل المشكلات العالقة بشأن إيرلندا الشمالية.

على صعيد السياسة الخارجية، تعهد ستارمر بمواصلة الدعم المطلق لأوكرانيا في حربها ضد روسيا، ما يعني أن بريطانيا ستبقى على الخط نفسه الذي تبنته حكومة سوناك. وهذا يعكس التوافق العريض بين الحزبين الكبيرين في الملفات الاستراتيجية، خاصة في قضايا الدفاع والأمن.

وعد ستارمر في خطابه الأول بإنهاء الفوضى وإحداث التغيير، لكن تنفيذ وعوده سيتطلب قرارات صعبة في ظل قيود اقتصادية خانقة.

يواجه حزب العمال تحديًا مزدوجًا: تحقيق الإصلاحات الداخلية المطلوبة دون فقدان شعبيته، خاصة أن الاستطلاعات تشير إلى أن جزءًا كبيرًا من الناخبين صوت له فقط لمعاقبة المحافظين وليس اقتناعًا بسياساته.

يبقى التساؤل الأهم: هل سيستطيع ستارمر تحويل شعاراته إلى واقع ملموس؟ أم أن حكومته ستواجه مصيرًا مشابهًا لحكومات المحافظين السابقة، حيث تعثرت بسبب الأزمات الداخلية؟

يمثل فوز حزب العمال تحولًا سياسيًا في بريطانيا، لكنه لا يضمن تلقائيًا نجاح الحكومة الجديدة في تحقيق “التغيير” الذي وعد به ستارمر. فالتحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ستفرض عليه اختبارات صعبة، خاصة في ظل تصاعد اليمين المتطرف وزيادة الاستقطاب السياسي. يبقى السؤال المطروح: هل يستطيع ستارمر كسر دورة الأزمات التي عصفت ببريطانيا في العقد الأخير؟ أم أنه سيواجه نفس المصير الذي لقيه المحافظون؟

“بعمق” زاوية أسبوعية سياسية تحليلية على “شُبّاك” يكتبها رئيس التحرير: مالك الحافظ

error: Content is protected !!