في قلب مملكة سبأ، واحدة من أعظم الحضارات القديمة في جنوب الجزيرة العربية، وقف سد مأرب كإعجاز هندسي متطور في زمنه، حيث وفّر المياه للزراعة وحوّل اليمن القديم إلى إحدى أغنى مناطق العالم القديم. لكن في مرحلة ما بين القرنين الخامس والسادس الميلادي، انهار السد، متسبباً في هجرة كبرى للقبائل العربية شمالاً نحو نجد، الحجاز، والعراق، مما أعاد تشكيل التوازن السكاني والسياسي في المنطقة.
لكن هل كان الانهيار مجرد ظاهرة طبيعية، أم أن هناك أسباباً سياسية واقتصادية ساهمت في انهيار المملكة السبئية؟ وكيف أثّر ذلك على انتشار القبائل العربية في الجزيرة، بل وحتى على تطور الثقافة واللغة العربية كما نعرفها اليوم؟
تم بناء سد مأرب قبل حوالي 3000 عام، وكان يعد واحداً من أهم المشاريع الهندسية في العالم القديم، حيث كان يتميز بـ: جدران حجرية ضخمة بُنيت بتقنيات معمارية متقدمة.
قنوات ري معقدة سمحت بتحويل الصحراء القاحلة إلى أراضٍ زراعية خصبة.
نظام تصريف مائي منع الفيضانات لقرون طويلة.
بفضل هذا السد، أصبحت مملكة سبأ مركزاً زراعياً مزدهراً، مما ساعدها على السيطرة على طرق التجارة العالمية، وخاصة تجارة البخور والتوابل بين الهند والبحر المتوسط.
لكن ازدهار المملكة لم يدم طويلاً، حيث بدأت عوامل سياسية وطبيعية تتسبب في انهيارها، وأدى ذلك إلى سقوط سد مأرب، الذي كان شريان الحياة الأساسي لها.
أسباب الانهيار: كارثة طبيعية أم تدهور سياسي؟
تختلف الروايات حول السبب الحقيقي وراء انهيار السد، لكن هناك نظريتان رئيسيتان:
1- التدهور الطبيعي والإهمال الهندسي
تشير بعض الدراسات إلى أن السد تعرّض لعوامل التعرية والزلازل التدريجية، مما تسبب في تشقق جدرانه وفشله في احتواء المياه. ومع غياب الصيانة الدورية، أصبح السد غير قادر على تحمل الضغط المتزايد، مما أدى إلى انهياره المفاجئ.
2- الصراعات السياسية والتدخل الأجنبي
هناك رأي آخر يشير إلى أن الصراعات الداخلية بين القبائل اليمنية آنذاك، إلى جانب الغزو الحبشي للمنطقة، أدى إلى إهمال البنية التحتية، بما في ذلك السد. يُقال إن الحروب جعلت السكان غير قادرين على الحفاظ على مشاريع الري الضخمة، مما تسبب في انهياره في النهاية.
الهجرة الكبرى: كيف غيّر انهيار السد التركيبة السكانية في الجزيرة العربية؟
بعد الكارثة، اضطر آلاف اليمنيين إلى مغادرة مناطقهم والهجرة شمالاً بحثاً عن مناطق أكثر استقراراً. يُعتقد أن العديد من القبائل العربية الكبرى تعود أصولها إلى هذه الهجرة، ومن بينها:
قبيلة الأوس والخزرج التي استقرت في يثرب (المدينة المنورة لاحقاً).
قبيلة الغساسنة التي استقرت في الشام وتحالفت مع الإمبراطورية البيزنطية.
قبيلة المناذرة التي توجهت إلى العراق وأصبحت حليفة للفرس الساسانيين.
قبائل قريش وأهل مكة الذين يُعتقد أن بعضهم من أصول يمنية قديمة.
هذه الهجرات لم تكن مجرد تحركات سكانية عشوائية، بل كان لها تأثير ثقافي ولغوي وسياسي عميق على تطور المنطقة، وساعدت في تشكيل الممالك العربية قبل الإسلام.
التداعيات الثقافية والاقتصادية لانهيار السد
تغير طرق التجارة: مع انهيار سبأ، فقدت المنطقة سيطرتها على تجارة البخور والتوابل، مما أعطى الفرصة لمكة ومناطق أخرى للسيطرة على التجارة.
انتشار اللغة العربية: مع انتقال القبائل اليمنية إلى مناطق جديدة، ساهموا في نشر لهجاتهم الجنوبية، التي أثّرت لاحقاً في تطور اللغة العربية الفصحى.
بروز مكة كمركز ديني وتجاري: يعتقد بعض المؤرخين أن هجرة بعض القبائل اليمنية إلى مكة ساعدت في تحويلها إلى مركز ديني وتجاري مهم قبل الإسلام.
ضعف النفوذ الحبشي في اليمن: بعد انهيار سبأ، تدخلت الإمبراطورية الحبشية في اليمن لكنها لم تستطع فرض سيطرتها طويلاً، مما فتح المجال أمام الفرس ثم العرب لاستعادة الحكم هناك.
رغم أن الكوارث الطبيعية تلعب دوراً في التاريخ، إلا أن انهيار سد مأرب كان أيضاً نتاجاً لأخطاء سياسية وإدارية أدت إلى فقدان السيطرة على مورد مائي استراتيجي. لو كان السبئيون قادرين على إدارة الصراعات الداخلية وصيانة السد بشكل أفضل، فهل كان يمكن أن تستمر حضارتهم؟
لكن يبقى السؤال الأكبر: هل كان انهيار سد مأرب مجرد كارثة هندسية، أم أنه كان الحدث الذي دفع العرب نحو تشكيل هويتهم التاريخية والثقافية كما نعرفها اليوم؟