Spread the love

في الرابع والعشرين من أكتوبر عام 1929، اهتزت الولايات المتحدة والعالم بأسره مع انهيار بورصة وول ستريت في واحدة من أسوأ الكوارث الاقتصادية في التاريخ الحديث. لم يكن هذا الانهيار مجرد أزمة مالية عابرة، بل كان بداية لما عُرف بـ”الكساد العظيم”، الذي استمر لأكثر من عقد، متسبباً في إفلاس آلاف البنوك والشركات، وارتفاع معدلات البطالة إلى مستويات غير مسبوقة، وتدمير اقتصاديات كبرى الدول الصناعية.

لكن بعد مرور أكثر من قرن على تلك الكارثة، لا تزال الأسئلة تثار حول ما إذا كان هذا الانهيار نتيجة طبيعية لنظام اقتصادي غير منضبط، أم أنه كان بفعل فاعل، بتلاعب من المؤسسات المالية الكبرى التي استفادت لاحقاً من الفوضى التي أحدثها؟ وهل كان يمكن تفادي هذه الأزمة لو تم اتخاذ إجراءات مختلفة؟

كيف بدأت الفقاعة الاقتصادية في العشرينيات؟

شهدت العشرينيات ما سُمي بـ”العقد الصاخب”، حيث ازدهر الاقتصاد الأميركي بشكل غير مسبوق، وتدفق المستثمرون إلى سوق الأسهم بحثاً عن الأرباح السريعة. كانت الشركات الكبرى تحقق أرباحاً ضخمة، والبنوك تمنح قروضاً بسهولة لأي شخص يرغب في شراء الأسهم، مما أدى إلى تضخم غير طبيعي في السوق. ارتفعت أسعار الأسهم إلى مستويات خيالية، حتى أصبحت قيمتها بعيدة تماماً عن واقع أداء الشركات الفعلي.

كان الجميع يعتقد أن السوق لن ينهار أبداً، حيث انتشرت ثقافة الاستثمار العشوائي، وأصبح الأفراد العاديون يدخلون البورصة لأول مرة بأموال مقترضة، معتقدين أن أسعار الأسهم ستواصل الارتفاع إلى ما لا نهاية. لكن هذه الطفرة كانت مبنية على أسس هشة، حيث لم يكن هناك تنظيم مالي حقيقي، وكان المضاربون يرفعون الأسعار بشكل مصطنع دون أن تعكس هذه الارتفاعات أي نمو اقتصادي حقيقي.

الخميس الأسود: بداية الانهيار

في صباح يوم الخميس 24 أكتوبر 1929، بدأ المستثمرون في بيع أسهمهم بشكل مكثف بعد أن بدأت الشكوك تتزايد حول استدامة هذه الطفرة الاقتصادية. خلال ساعات قليلة، انهارت الأسعار، وبدأ الذعر ينتشر بين المستثمرين، الذين اندفعوا للبيع بأي ثمن قبل أن يخسروا كل شيء.

استمرت عمليات البيع الجماعي حتى يوم الثلاثاء 29 أكتوبر، الذي عُرف بـ”الثلاثاء الأسود”، حيث وصلت الأسعار إلى أدنى مستوياتها، وخسر المستثمرون مليارات الدولارات خلال أيام قليلة. كانت هذه بداية النهاية، حيث بدأ الاقتصاد الأميركي ينهار بشكل متسارع، وانهارت الثقة في النظام المالي برمته.

هل كان الانهيار مفتعلاً؟

هناك العديد من النظريات التي تشير إلى أن انهيار وول ستريت لم يكن مجرد حادثة اقتصادية عشوائية، بل كان نتيجة تلاعب متعمد من قبل المصرفيين الكبار، الذين رأوا في هذه الأزمة فرصة لإعادة تشكيل الاقتصاد الأميركي لصالحهم.

إحدى النظريات تشير إلى أن البنوك الكبرى كانت تدرك أن السوق كان في فقاعة غير مستدامة، لكنها اختارت عدم التدخل حتى يتمكن كبار المستثمرين من سحب أموالهم في الوقت المناسب، تاركين صغار المستثمرين ليواجهوا الخسائر وحدهم. في الواقع، تشير بعض التقارير إلى أن بعض المؤسسات المالية الكبرى قامت ببيع كميات ضخمة من الأسهم قبل أسابيع من الانهيار، مما يثير الشكوك حول معرفتها المسبقة بما كان سيحدث.

كيف تحول الانهيار إلى كساد عالمي؟

بعد الانهيار، دخل الاقتصاد الأميركي في حالة من الانكماش العميق، حيث أغلقت آلاف الشركات أبوابها، وانهارت البنوك التي لم تتمكن من استرداد قروضها، وارتفعت البطالة إلى مستويات قياسية. لم تكن الولايات المتحدة الوحيدة التي تأثرت، بل انتشرت الأزمة إلى أوروبا وبقية العالم، حيث أدى انخفاض الطلب الأميركي إلى انهيار الأسواق العالمية، وتفاقمت الأزمة بسبب السياسات الاقتصادية السيئة التي اتخذتها الحكومات في محاولة لمعالجة الوضع.

بدلاً من التدخل لإنقاذ الاقتصاد، فرضت الولايات المتحدة تعرفة “سموت-هاولي” الجمركية في عام 1930، مما أدى إلى حرب تجارية عالمية زادت من تعميق الأزمة، حيث ردت الدول الأخرى بفرض تعريفات مماثلة، مما أدى إلى تباطؤ التجارة العالمية وانهيار مزيد من الشركات والصناعات.

كيف استغلت النخب المالية هذه الأزمة؟

رغم أن الملايين فقدوا وظائفهم وأعمالهم، إلا أن بعض النخب المالية استفادت من الأزمة، حيث تمكنت البنوك الكبرى من شراء الشركات المنهارة بأسعار زهيدة، واستولت على الأصول العقارية التي فقدها أصحابها بسبب الإفلاس.

كان لهذه الأزمة أيضاً تداعيات سياسية عميقة، حيث زادت من مشاعر الغضب تجاه النظام الرأسمالي، مما أدى إلى صعود الحركات الشعبوية والاشتراكية في العديد من الدول. في ألمانيا، على سبيل المثال، استغل أدولف هتلر تداعيات الكساد العظيم لإقناع الألمان بأن النظام الاقتصادي العالمي فاسد ويجب تغييره، مما ساهم في صعود الحزب النازي إلى السلطة.

هل يمكن أن يتكرر السيناريو اليوم؟

رغم أن الأنظمة المالية الحديثة أصبحت أكثر تنظيماً مقارنة بعشرينيات القرن الماضي، فإن الأزمات المالية لا تزال تكرر نفسها، حيث شهد العالم أزمة مالية أخرى عام 2008، عندما انهارت البنوك بسبب فقاعة العقارات، في مشهد شبيه بما حدث في 1929.

في كل أزمة مالية، يكون السؤال المطروح: هل كانت الأزمة نتيجة سياسات اقتصادية خاطئة أم أنها كانت مفتعلة من قبل النخب المالية التي تعرف كيف تستفيد من الانهيارات؟ لا يوجد جواب واضح، لكن التاريخ يثبت أن النظام الرأسمالي لديه ميل متكرر نحو خلق الفقاعات، ثم الانهيارات، ثم إعادة توزيع الثروة لصالح القلة التي تعرف كيف تستغل هذه الأزمات لصالحها.

يبقى انهيار وول ستريت عام 1929 درساً تاريخياً حول مخاطر الاقتصاد غير المنضبط، لكنه أيضاً مثال على كيف يمكن للنخب الاقتصادية أن تستفيد حتى من أسوأ الكوارث، بينما يدفع الملايين الثمن. فهل كانت هذه الأزمة حادثاً طبيعياً، أم أن هناك أيادٍ خفية كانت تحرك السوق لصالحها؟ السؤال لا يزال مفتوحاً، لكن المؤكد هو أن النظام الاقتصادي العالمي لم يعد كما كان بعد هذه الكارثة.

error: Content is protected !!