في مقابلة حصرية مع المذيع الأمريكي تاكر كارلسون، أرسل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رسائل واضحة إلى الغرب مفادها أن موسكو ليست معنية بتوسيع الحرب خارج أوكرانيا، وأن قادة الدول الغربية بدأوا يدركون استحالة تحقيق “هزيمة استراتيجية” لروسيا. تأتي هذه التصريحات في وقت يشهد العالم تصعيداً غير مسبوق في الحرب الأوكرانية، مما يطرح تساؤلات جوهرية: هل تمثل تصريحات بوتين تحولاً حقيقياً في الاستراتيجية الروسية؟ أم أنها مجرد تكتيك سياسي لكسب الوقت وإعادة تموضع القوات الروسية في ساحة المعركة؟
أكد بوتين أن روسيا لا تنوي غزو بولندا أو لاتفيا، مبرراً ذلك بعدم وجود “مصلحة” لموسكو في توسيع رقعة الصراع. لكن السؤال الأهم: هل يمكن الوثوق بمثل هذه التصريحات في ظل تاريخ طويل من التحركات العسكرية الروسية التي سبقتها نفي مماثل؟
من الناحية الجيوسياسية، ترغب روسيا في تهدئة مخاوف دول أوروبا الشرقية وتقليل اندفاع الناتو نحو عسكرة المنطقة.
من الناحية العسكرية، تواجه موسكو تحديات ميدانية في أوكرانيا، حيث لم تتمكن بعد من تحقيق أهدافها بالكامل، مما يجعلها غير قادرة على فتح جبهة جديدة.
على المستوى الدبلوماسي، تسعى موسكو إلى تحسين صورتها كدولة “عقلانية” لا تسعى للحروب، في مقابل تصوير الغرب على أنه الجهة التي تؤجج الصراع من خلال دعم أوكرانيا بالأسلحة.
لكن في المقابل، هناك من يرى أن هذه التصريحات ليست سوى تكتيك دعائي يهدف إلى تهدئة المخاوف الغربية، بينما تستمر روسيا في تعزيز نفوذها العسكري والسياسي في المنطقة.
في خطابه، دعا بوتين واشنطن إلى “التوقف عن توريد الأسلحة” لأوكرانيا إذا كانت تريد إنهاء الحرب. هذه الرسالة تعكس ركيزة أساسية في الاستراتيجية الروسية.
روسيا تدرك أن استمرار تدفق الأسلحة الغربية لأوكرانيا هو العامل الحاسم الذي يمنع موسكو من تحقيق نصر سريع.
تحاول روسيا الضغط على الرأي العام الغربي من خلال تصوير الدعم العسكري الأمريكي لكييف على أنه السبب الرئيسي في استمرار النزاع.
موسكو تراهن على تصاعد الضغوط الداخلية في الدول الغربية، حيث بدأت بعض الأصوات في أوروبا والولايات المتحدة تتحدث عن تكلفة الحرب وأثرها الاقتصادي.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل يمكن للولايات المتحدة حقاً التوقف عن تسليح أوكرانيا؟ الواقع يشير إلى أن واشنطن تعتبر أوكرانيا خط الدفاع الأول ضد التوسع الروسي، لذا فإن أي انسحاب أمريكي سيعني انتصاراً استراتيجياً لموسكو، وهو ما لن تسمح به إدارة بايدن بسهولة.
ألمح بوتين إلى إمكانية التوصل إلى اتفاق بين روسيا وأوكرانيا، مؤكداً أن “طريق المفاوضات مفتوح”. كما ذكر أن محادثات إسطنبول التي جرت بوساطة تركيا كانت فرصة حقيقية لإنهاء الحرب، لكن كييف تراجعت عنها “بأوامر من الغرب”.
هذه التصريحات تفتح باب النقاش حول مستقبل الحل الدبلوماسي، لكنها في الوقت ذاته تطرح عدة تساؤلات: إذا كانت روسيا فعلاً مستعدة للتفاوض، فلماذا تواصل عملياتها العسكرية في أوكرانيا؟ وهل يعني ذلك أن موسكو وصلت إلى نقطة ترى فيها أن تحقيق نصر عسكري كامل بات صعباً؟ وهل هذه دعوة حقيقية للسلام أم مجرد مناورة روسية تهدف إلى دفع الغرب لتخفيف العقوبات والضغوط الاقتصادية؟
من الناحية الواقعية، لا توجد مؤشرات على استعداد حقيقي من أي طرف لوقف الحرب، خاصة أن كل طرف لا يزال يرى أن بإمكانه تحقيق المزيد من المكاسب الميدانية قبل الذهاب إلى طاولة المفاوضات.
من غير المرجح أن تغير الولايات المتحدة موقفها بناءً على تصريحات بوتين، بل من المتوقع أن تستمر في تسليح أوكرانيا وتقديم الدعم المالي لها. فقد أثبتت واشنطن مراراً أنها ترى في الحرب الأوكرانية فرصة لإضعاف روسيا وإبقاء موسكو في حالة استنزاف عسكري واقتصادي.
في أوروبا، هناك انقسام متزايد بين الدول التي تريد استمرار الدعم العسكري لأوكرانيا دون قيد أو شرط، مثل بولندا ودول البلطيق، وبين الدول التي بدأت تشعر بوطأة الحرب على اقتصاداتها، مثل ألمانيا وفرنسا. تصريحات بوتين قد تمنح بعض الدول الأوروبية فرصة للضغط من أجل حلول دبلوماسية، لكنها لن تغير من موقف الناتو الذي يرى في روسيا تهديداً مستمراً.
الصين قد تستغل هذه التصريحات لتقديم نفسها كوسيط دولي، خاصة أنها كانت تسعى منذ فترة لطرح مبادرة سلام بين موسكو وكييف. لكن بكين تدرك أيضاً أن المصالح الغربية لن تسمح لها بلعب دور مؤثر دون دعم أمريكي، وهو ما يجعل فرص نجاح أي وساطة صينية محدودة.
رغم تصريحات بوتين، فإن الوقائع على الأرض تشير إلى أن القتال سيستمر، مع استمرار الدعم الغربي لكييف واستمرار روسيا في محاولاتها تحقيق تقدم عسكري ولو جزئي.
إذا قررت روسيا استهداف المزيد من البنية التحتية الغربية في أوكرانيا أو إذا زادت الهجمات الأوكرانية على العمق الروسي، فقد نشهد تصعيداً يؤدي إلى تدخل غربي أوسع، وهو سيناريو محفوف بالمخاطر.
قد نشهد في مرحلة ما جهوداً دبلوماسية أكبر لإعادة إحياء مفاوضات السلام، خاصة إذا استمر الضغط الاقتصادي على روسيا وأوكرانيا. لكن هذه المفاوضات ستظل مرهونة بحسابات ميدانية معقدة، ولن تحدث إلا إذا اقتنع أحد الطرفين بأنه لا يمكنه تحقيق مكاسب إضافية بالحرب.
تصريحات بوتين تبدو في ظاهرها محاولة لطمأنة الغرب، لكنها في جوهرها جزء من حرب نفسية أوسع تهدف إلى التأثير على المواقف الغربية وتشتيت الانتباه عن التحركات العسكرية الروسية. الغرب يدرك هذه الحقيقة، ولن يُغيّر من دعمه لأوكرانيا بناءً على تصريحات إعلامية. في النهاية، الحرب مستمرة، والتصعيد لا يزال قائماً، وما لم تحدث تطورات دراماتيكية، فإن الصراع الأوكراني-الروسي سيظل مفتوحاً لفترة غير محددة.
“بعمق” زاوية أسبوعية سياسية تحليلية على “شُبّاك” يكتبها رئيس التحرير: مالك الحافظ