توقيع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على مرسوم جديد يسمح باستخدام الأسلحة النووية ضد دول غير نووية مدعومة من قوى تمتلك هذا النوع من السلاح، يمثل تصعيداً استراتيجياً غير مسبوق في الصراع الدائر بين موسكو والغرب. هذه الخطوة تأتي في لحظة حساسة، حيث تدخل الحرب الروسية الأوكرانية يومها الألف، وسط تصعيد عسكري متزايد بين الطرفين، لا سيما بعد سماح الولايات المتحدة لكييف باستخدام صواريخ بعيدة المدى لضرب أهداف داخل العمق الروسي. إنها لحظة فارقة تعكس تحول العقيدة النووية الروسية من الردع التقليدي إلى استراتيجية ردع موسع يحمل أبعاداً خطيرة.
إن جوهر المرسوم الجديد يكمن في إعادة تعريف مفهوم العدوان النووي، حيث لم يعد استخدام السلاح النووي محصوراً فقط في الرد على هجوم نووي مباشر أو تهديد وجودي للدولة الروسية، بل توسع ليشمل سيناريوهات جديدة مثل استخدام أراضٍ لدعم عدوان ضد روسيا، أو شن هجمات على روسيا من قبل دولة غير نووية بدعم من قوة نووية كبرى. هذه التعديلات تعني أن أي صدام عسكري بين أوكرانيا وروسيا قد يتحول إلى أزمة نووية، إذا رأت موسكو أن الدعم الغربي العسكري لكييف يمثل تهديداً وجودياً مباشراً.
المراقبون يرون أن العقيدة النووية المعدلة تهدف إلى إرسال رسائل واضحة لواشنطن وحلف شمال الأطلسي بأن الخطوط الحمراء الروسية لم تتغير، وأن أي تجاوز لها سيؤدي إلى تداعيات كارثية. فمنذ بدء الحرب، استخدمت موسكو التهديد النووي كأداة للردع، لكنها اليوم تنقل هذه التهديدات من خانة الردع اللفظي إلى مستوى استراتيجي عملي أكثر حسماً. التصريحات الصادرة عن الكرملين، والتي تؤكد أن أي هجوم من دولة غير نووية بدعم من دولة نووية سيعتبر هجوماً مشتركاً، تعكس بوضوح التوجه الجديد لموسكو، الذي لا يرى فرقاً جوهرياً بين مهاجمة روسيا مباشرة أو دعم دولة أخرى للقيام بذلك.
لكن السؤال الأساسي الذي يطرحه هذا التطور: هل يمكن اعتبار هذا المرسوم خطوة عملية نحو استخدام السلاح النووي، أم أنه مجرد تحرك سياسي لتعزيز الردع وإبقاء الغرب في حالة تردد؟ من الناحية الاستراتيجية، يدرك الكرملين أن اللجوء إلى السلاح النووي يحمل في طياته مخاطر غير محسوبة، خاصة مع امتلاك واشنطن قدرات ردع متقدمة، لكن في الوقت ذاته، قد يكون هذا التلويح النووي تكتيكاً لإجبار الغرب على التراجع عن دعم أوكرانيا عسكرياً أو فرض مزيد من الضغوط السياسية لفتح باب المفاوضات.
هناك بعد آخر لا يمكن تجاهله، وهو تأثير هذه العقيدة النووية الجديدة على السياسة الداخلية الروسية. بوتين، الذي يستعد لمواصلة حكمه وسط تحديات اقتصادية متزايدة وعزلة دولية متنامية، ربما يسعى عبر هذه الخطوة إلى تعزيز صورته كقائد قوي قادر على فرض قواعد جديدة في العلاقات الدولية، خاصة في ظل استمرار الدعم الغربي لكييف، والذي يظهر أن العقوبات الاقتصادية لم تفلح في تقويض موقف روسيا. إن الإشارة إلى إمكانية استخدام الأسلحة النووية ضد دول غير نووية، ولكن مدعومة من قوة نووية، يهدف أيضاً إلى تهيئة الرأي العام الروسي لفكرة أن المواجهة مع الغرب قد تتجاوز حرب أوكرانيا، لتصبح صراعاً وجودياً يتطلب قرارات استثنائية.
على المستوى الدولي، يشكل هذا التطور تحدياً جديداً لنظام الردع النووي القائم منذ الحرب الباردة، والذي يعتمد على مبدأ التوازن المتبادل والردع المتبادل بين القوى الكبرى. التوسع في تفسير شروط استخدام السلاح النووي قد يفتح المجال أمام دول أخرى لتبني مقاربات مماثلة، مما يهدد استقرار الأمن العالمي. في هذا السياق، فإن رد فعل واشنطن وحلف شمال الأطلسي سيكون حاسماً في تحديد ما إذا كان هذا التوجه الروسي سيؤدي إلى تصعيد جديد أو سيظل مجرد ورقة ضغط سياسية.
التاريخ الحديث أظهر أن التهديدات النووية غالباً ما يتم استخدامها لردع الخصوم دون الحاجة إلى تنفيذها فعلياً. لكن مع تعقد المشهد الدولي، وتنامي أجواء عدم الثقة بين روسيا والغرب، فإن أي حسابات خاطئة قد تؤدي إلى انزلاق الوضع نحو سيناريوهات خطيرة. في النهاية، تبقى العقيدة النووية المعدلة رسالة مفتوحة إلى العالم مفادها أن موسكو مستعدة لاستخدام جميع أدواتها الاستراتيجية إذا شعرت بأن أمنها القومي أصبح على المحك، لكنها أيضاً اختبار لمحدودية الردع الغربي في التعامل مع التهديدات المتزايدة من القوة النووية الروسية.
“بعمق” زاوية أسبوعية سياسية تحليلية على “شُبّاك” يكتبها رئيس التحرير: مالك الحافظ