الخميس. أكتوبر 17th, 2024

بين حرية التعبير والتجديف.. أين تنتهي الحرية وأين يبدأ الإيذاء؟

تعد حرية التعبير من الحقوق الأساسية التي شكلت أساس المجتمعات الديمقراطية الحديثة. ترجع جذور هذا المفهوم إلى عصر التنوير في أوروبا، حيث كان يُنظر إلى حرية التعبير على أنها مفتاح للتقدم الاجتماعي والسياسي. الفلاسفة مثل جون لوك وجون ستيوارت ميل رأوا في حرية التعبير وسيلة لا غنى عنها للتغيير والإصلاح، وضمانًا لمحاسبة السلطات. في هذا السياق، لم تكن حرية التعبير مجرد حق فردي، بل كانت أيضًا أداة جماعية تُمكّن المجتمعات من تطوير نفسها.

ومع ذلك، فإن تاريخ حرية التعبير يكشف عن علاقة معقدة بين هذا الحق والقيود التي تفرضها المجتمعات لحماية القيم الأخرى، مثل الأمن الوطني أو حقوق الأفراد الآخرين. حتى في أكثر المجتمعات ليبرالية، كانت هناك دائمًا قيود على حرية التعبير، مثل حظر التحريض على العنف أو القذف والتشهير. ومع ظهور الإعلام الرقمي وانتشار الأفكار على نطاق عالمي، أصبحت هذه القيود أكثر تعقيدًا، حيث يتعين على الحكومات والمجتمعات التوفيق بين حرية التعبير والحفاظ على السلم الاجتماعي.

الخط الأحمر بين النقد والإهانة

التجديف، من الناحية التقليدية، يشير إلى أي قول أو فعل يُعد تعديًا على المقدسات الدينية. تختلف تعريفات التجديف وحدوده من مجتمع لآخر، مما يعكس التنوع الثقافي والديني بين الشعوب. في الإسلام، يُعتبر التجديف إهانة كبيرة، حيث يُنظر إليه على أنه مساس بقدسية الله والأنبياء، ولذلك كان يُعاقب عليه بشدة في العديد من الدول الإسلامية. على مر التاريخ، كانت القوانين ضد التجديف جزءًا من القوانين العامة في المجتمعات الإسلامية، وغالبًا ما كانت تُستخدم كأداة لضمان السلم الاجتماعي وحماية الدين من الانتقادات.

ومع ذلك، في المجتمعات الغربية، وخاصة بعد عصر التنوير، بدأت قوانين التجديف تفقد تأثيرها تدريجيًا. اليوم، في معظم الدول الغربية، يُعتبر انتقاد الدين، بما في ذلك السخرية من المقدسات، جزءًا من حرية التعبير المحمية دستوريًا. هذا التحول يعكس تغيرًا أعمق في كيفية رؤية هذه المجتمعات للعلاقة بين الدين والدولة، حيث أصبحت العلمانية هي المبدأ السائد الذي يفصل بين السلطة الدينية والسياسية. هذا الانفصال أتاح مساحة أكبر لحرية التعبير، ولكنه أيضًا خلق تحديات جديدة في كيفية التعامل مع المعتقدات الدينية في الفضاء العام.

أحد أكثر الأسئلة تعقيدًا في هذا السياق هو كيفية التوفيق بين الحق في حرية التعبير والحق في عدم التعرض للإهانة بسبب المعتقدات الدينية. من جهة، يرى المدافعون عن حرية التعبير أن القدرة على نقد الدين والسخرية منه هي جزء من النقاش العام الضروري، خاصة في مجتمعات متعددة الأديان والثقافات. من جهة أخرى، يرى المدافعون عن حماية الدين أن هذا النوع من التعبير يمكن أن يتحول إلى شكل من أشكال الإيذاء والتحريض على الكراهية.

في فرنسا، على سبيل المثال، تمثل قضية السخرية من الدين تحديًا كبيرًا، حيث تعتبر الحكومة أن حرية التعبير جزء لا يتجزأ من قيم الجمهورية. هذا الموقف أدى إلى توترات مع الدول الإسلامية التي ترى في مثل هذه الأفعال إهانة لمقدساتها. هذه التوترات ليست مجرد خلافات فكرية، بل تتجلى في أشكال من العنف والاحتجاجات، مما يعكس مدى تعقيد هذه الجدلية.

د. ليلى سالم، أستاذة القانون الدولي وحقوق الإنسان، تعتبر خلال حديثها لـ”شُبّاك” أن القوانين المتعلقة بحرية التعبير والتجديف تختلف بشكل كبير من دولة إلى أخرى، وتعكس في كثير من الأحيان القيم الثقافية والدينية السائدة في تلك الدول. مشيرة إلى أن في المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة، يُنظر إلى التجديف على أنه تهديد مباشر للنسيج الاجتماعي والديني، حيث أن الإساءة إلى الرموز الدينية تُعتبر إهانة جماعية للمجتمع بأسره. هذا المفهوم متجذر في تاريخ طويل من الاحترام العميق للدين في الحياة العامة، وهو جزء من الهوية الجماعية.

بينما في المجتمعات الغربية، حيث العلمانية تُعتبر مبدأً أساسيًا، يتم التعامل مع حرية التعبير على أنها حق مقدس لا يجوز المساس به. هناك، يُعتبر نقد الدين، بما في ذلك السخرية من المقدسات، جزءًا من النقاش العام الضروري الذي يساهم في تطور الأفكار وتحدي السلطات الدينية. لكن هذا النهج يثير جدلاً كبيرًا عندما يتم تصدير هذه الأفكار إلى مجتمعات ذات خلفيات ثقافية ودينية مختلفة.

وتضيف بالقول “أعتقد أن الحل يكمن في تعزيز التفاهم بين الثقافات المختلفة، وإيجاد طرق لحماية حقوق الأفراد دون التضحية بمبادئ حرية التعبير. هذا يمكن أن يتحقق من خلال تعزيز القوانين الدولية التي تحمي الحقوق الأساسية دون التعدي على القيم الثقافية والدينية للأمم المختلفة. على المستوى الدولي، يمكن للمؤسسات الحقوقية أن تلعب دورًا أكبر في توجيه النقاش نحو حلول تحترم التعددية الدينية والثقافية، وتشجع على الحوار البناء بين المجتمعات المختلفة. يجب أن نتذكر أن حقوق الإنسان هي عالمية، ولكن تطبيقها يجب أن يأخذ في الاعتبار السياقات الثقافية والدينية لكل مجتمع.”

إمكانية التوازن بين الحقوق

في ظل هذه التوترات، يظل السؤال عن إمكانية تحقيق توازن بين حرية التعبير واحترام المعتقدات الدينية مطروحًا بقوة. بعض المفكرين يقترحون أن الحل يكمن في تعزيز مفهوم “التعددية المتسامحة”، حيث يتم قبول كافة الآراء والمعتقدات، ولكن في إطار من الاحترام المتبادل. هذا النهج يتطلب من المجتمعات أن تتبنى قيم الحوار والانفتاح، بدلاً من الاعتماد على القوانين القمعية أو العقوبات.

التعددية المتسامحة قد تكون الحل الأمثل، حيث يمكن للمجتمعات أن تتعلم كيفية التعايش مع الاختلافات الدينية والثقافية دون أن تتنازل عن حقوقها الأساسية. ومع ذلك، يظل تطبيق هذا المفهوم تحديًا كبيرًا، خاصة في ظل وجود جماعات متطرفة من كلا الجانبين ترفض التعايش السلمي وتفضل استخدام العنف لفرض آرائها.

يُعد الجدل حول حرية التعبير والتجديف اختبارًا حقيقيًا لقدرة المجتمعات الحديثة على التعايش مع التعددية والاختلاف. التحدي هنا لا يكمن فقط في سن القوانين وتنفيذها، بل في كيفية تعزيز ثقافة تحترم حقوق الأفراد في التعبير عن آرائهم، وفي الوقت نفسه تحترم معتقدات الآخرين.

د. أحمد الخالدي، أستاذ الفلسفة السياسية، يوضح في حديثه لـ”شُبّاك” بأن حرية التعبير تُعد حجر الأساس في المجتمعات الديمقراطية، وهي ضرورية لتطوير الفكر النقدي وتعزيز النقاش العام، وأن هذا الحق يُعتبر من المكتسبات الكبرى للحضارة الحديثة، حيث يُمكّن الأفراد من التعبير عن آرائهم وأفكارهم دون خوف من القمع أو العقاب. ومع ذلك، يجب أن نفهم أن الحرية لا تعني الفوضى. فمثلما توجد حرية للفرد في التعبير، هناك أيضًا حقوق أخرى يجب احترامها، مثل الحق في عدم التعرض للإهانة أو التشهير، خاصة عندما يتعلق الأمر بالمعتقدات الدينية.

ويضيف “التحدي الأكبر يكمن في تحديد هذه الحدود بطريقة تحمي كرامة الأفراد وتحافظ في الوقت نفسه على الحق في التعبير. في السياق الحالي، حيث العولمة جعلت العالم أكثر تداخلًا وتعقيدًا، أصبح من الصعب جدًا رسم هذه الحدود بشكل يتفق عليه الجميع. على سبيل المثال، ما يُعتبر مقبولاً من حرية التعبير في دولة ذات تقاليد علمانية قوية، قد يُعتبر تجديفًا وإهانة في دولة أخرى ذات أغلبية دينية”.

واعتبر أن التعددية المتسامحة يمكن أن تكون إطارًا مناسبًا لتحقيق هذا التوازن، حيث يسمح للأفكار بالتنافس بشكل حر، ولكن دون تجاوز الحدود التي قد تؤدي إلى إيذاء مشاعر الآخرين. “هذا يتطلب ليس فقط قوانين واضحة، ولكن أيضًا تعزيز ثقافة الحوار والاحترام المتبادل. يجب أن نعمل على تطوير ثقافة تعترف بأن حرية التعبير ليست مطلقة، وأنها تأتي بمسؤوليات يجب أن نتحملها جميعًا.”

Related Post