Spread the love

منذ اندلاع عملية «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر 2023، وجدت مصر نفسها في وضع دبلوماسي معقد، حيث تشهد العلاقات مع إسرائيل حالة من التوتر المتزايد، رغم ما كان يسمى بـ«السلام الدافئ» بين البلدين على مدار السنوات الأخيرة. التوتر الحالي ينبع من عدة عوامل، أبرزها الحصار الذي يفرضه جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، واتهامات متزايدة بوجود مخطط لتهجير الفلسطينيين من القطاع إلى سيناء، وهو الأمر الذي تصفه القاهرة بالخط الأحمر الذي لا يمكن تجاوزه.

على مدار العقد الماضي، لعبت مصر دور الوسيط الأساسي في التهدئة بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل، وهو دور عزز من موقعها الإقليمي، خاصة في ظل تراجع التأثير العربي في مسار الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي. لكن الوضع الحالي يضع القاهرة في مواجهة واقع أكثر تعقيداً، إذ لم يعد الأمر يقتصر على التوسط، بل بات يتعلق مباشرة بالأمن القومي المصري.

منذ بداية الحرب، حاولت بعض الأطراف الإسرائيلية إعادة إحياء فكرة «الخيار السيناوي»، وهو الطرح القديم الذي يسعى إلى توطين الفلسطينيين في سيناء كحل للصراع، وهو ما رفضته مصر مراراً عبر الحكومات المتعاقبة. التصريحات الصادرة عن مسؤولين إسرائيليين، وعلى رأسهم المتحدث العسكري للجيش الإسرائيلي، حول إمكانية لجوء الفلسطينيين إلى مصر عبر معبر رفح، قوبلت برد مصري حازم، تجسد في تصريحات مباشرة للرئيس عبد الفتاح السيسي، أكد فيها أن مصر لن تسمح بأي اختراق لحدودها.

ورغم نفي السفارة الإسرائيلية في القاهرة وجود نوايا لتهجير سكان غزة، فإن التسريبات الإعلامية والتصريحات المتضاربة من داخل إسرائيل تعزز الشكوك حول وجود محاولات فعلية لدفع الفلسطينيين نحو الهجرة القسرية. وقد زاد هذا الملف من تعقيد العلاقة بين القاهرة وتل أبيب، حيث بات يمس جوهر الأمن القومي المصري بشكل مباشر، ويدفع القيادة المصرية إلى تبني مواقف أكثر صلابة في تعاملها مع الأزمة.

الضغوط الإسرائيلية وملف المعونات

إحدى أكثر القضايا حساسية في التوتر القائم هي قضية المعونات الإنسانية. منذ بدء الحرب، سعت مصر إلى تأمين ممر آمن للمساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة عبر معبر رفح، إلا أن إسرائيل وضعت عراقيل متتالية أمام هذا المسار، وصلت إلى حد تهديد قصف القوافل الإغاثية. بل إن المعبر نفسه تعرض للاستهداف الإسرائيلي عدة مرات، في خطوة تعكس مستوى التصعيد الذي بلغته الأزمة بين البلدين.

في هذا السياق، يرى أحمد كمال، الباحث في شؤون الشرق الأوسط، أن الموقف المصري تجاه إدخال المساعدات بات يشكل اختباراً حقيقياً لقدرة القاهرة على المناورة في هذا الملف. ويوضح كمال أن «مصر تجد نفسها أمام تحدي الحفاظ على دورها كوسيط دون أن تبدو وكأنها خاضعة للإملاءات الإسرائيلية، خاصة بعد استهداف المعبر، الذي اعتبرته القاهرة انتهاكاً للاتفاقيات الثنائية».

ويضيف: «الموقف المصري من المساعدات بات أكثر حزماً، إذ تسعى القاهرة لإبقاء معبر رفح مفتوحاً أمام الإغاثة، في الوقت الذي ترفض فيه الرضوخ لأي ضغوط تهدف إلى استخدام الملف الإنساني كأداة ضغط سياسي».

التحذير المصري لإسرائيل: أزمة استخباراتية أم تلاعب سياسي؟

إلى جانب ملف التوطين والمساعدات، نشبت أزمة جديدة بين القاهرة وتل أبيب بسبب تقارير إعلامية تحدثت عن تحذير مصر لإسرائيل قبل أيام من هجوم السابع من أكتوبر، وهو ما نفته القاهرة بشدة. التقارير الإسرائيلية زعمت أن مسؤولين مصريين، بمن فيهم رئيس المخابرات العامة عباس كامل، أبلغوا إسرائيل بوجود «حدث جلل» وشيك في قطاع غزة، لكن تل أبيب لم تتعامل مع التحذير بجدية.

التناقض في الروايات حول هذا التحذير يعكس أزمة أعمق في العلاقة الأمنية بين البلدين. فبينما تحاول بعض الأوساط الإسرائيلية إلقاء اللوم على مصر في فشل أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية في توقع الهجوم، ترفض القاهرة الانجرار إلى هذا السجال، مؤكدة أن دورها يظل محصوراً في التهدئة، وليس توفير معلومات استخباراتية لطرف دون آخر.

ويشير ليث المرزوقي، الباحث في العلاقات الدولية في مركز دراسات الشرق الأوسط، إلى أن هذه الروايات المتضاربة تعكس محاولات إسرائيلية لصرف الأنظار عن فشلها الأمني. ويقول: «تسريب معلومات بهذا الشكل قد يكون محاولة إسرائيلية لإيجاد مخرج سياسي لأزمة الاستخبارات، خاصة مع تصاعد الانتقادات الداخلية لحكومة نتنياهو».

الأفق المستقبلي: هل يتصدع «السلام الدافئ»؟

مع تصاعد هذه الأزمات، يثار التساؤل حول مستقبل العلاقات المصرية – الإسرائيلية، وما إذا كانت ستشهد تراجعاً ملحوظاً في ظل المتغيرات الجارية. ورغم التوتر الحالي، فإن المصالح الاستراتيجية بين البلدين لا تزال تلعب دوراً في ضبط إيقاع العلاقات.

فعلى الرغم من التصعيد، لم تلجأ القاهرة إلى إجراءات تصعيدية حقيقية مثل تجميد التعاون الأمني أو سحب السفير المصري من تل أبيب، وهو ما يشير إلى أن مصر لا تزال حريصة على الحفاظ على خطوط التواصل، مع إبقاء الضغط السياسي قائماً لإعادة ضبط التوازن في العلاقة.

وفي هذا السياق، يرى المرزوقي أن «السلام بين مصر وإسرائيل مر بأزمات عديدة في الماضي، لكنه بقي قائماً بسبب المصالح الاستراتيجية المشتركة». لكنه يحذر من أن «الضغط الشعبي المصري المتزايد، خاصة مع تصاعد المشاعر المناهضة لإسرائيل داخل الشارع، قد يفرض على القاهرة اتخاذ إجراءات أكثر صرامة إذا استمر التصعيد الإسرائيلي».

لا شك أن الحرب الجارية في غزة وضعت مصر في موقف دبلوماسي وأمني شديد الحساسية. فبين رغبتها في الحفاظ على دورها كوسيط، وسعيها لحماية أمنها القومي، تجد القاهرة نفسها مضطرة للمناورة بحذر بين هذه المعادلات المتشابكة.

ورغم أن احتمالات القطيعة الكاملة بين البلدين تظل ضعيفة، إلا أن مستقبل العلاقة سيكون مرهوناً بتطورات الحرب، ومدى استعداد إسرائيل لاحترام الخطوط الحمراء المصرية، لا سيما فيما يتعلق بملفي التوطين والمساعدات الإنسانية. وإذا استمرت إسرائيل في تجاهل هذه الاعتبارات، فإن العلاقة بين القاهرة وتل أبيب قد تدخل مرحلة جديدة من التوتر، تجعل من «السلام الدافئ» مفهوماً قابلاً لإعادة التقييم في المستقبل القريب.

error: Content is protected !!