Spread the love

يعد إعلان خيرت فيلدرز، زعيم حزب الحريات اليميني المتطرف في هولندا، التخلي عن رئاسة الوزراء، نقطة تحول بارزة في المشهد السياسي الهولندي، بعد أن قاد حزبه لتحقيق انتصار غير مسبوق في الانتخابات البرلمانية، حاصدًا 37 مقعدًا من أصل 150. كان هذا الفوز بمثابة مفاجأة سياسية، لكنه لم يكن كافيًا لضمان سيطرته على الحكومة في ظل معارضة واسعة من الأحزاب الأخرى التي تتخوف من سياساته المعادية للمهاجرين والإسلام.

إذن، ما الذي دفع فيلدرز إلى اتخاذ هذه الخطوة؟ هل هو تراجع استراتيجي أم تكتيك سياسي لإعادة التموضع؟ وهل يمثل ذلك ضربة لطموحات اليمين المتطرف أم مجرد تأخير لمشروعه السياسي الأكبر؟ هذه الأسئلة تتطلب تحليلًا عميقًا للسياقات السياسية المحيطة بالحدث.

يبرر فيلدرز تراجعه عن رئاسة الوزراء بأنه أراد تسهيل تشكيل حكومة يمينية بدلاً من تعقيد المفاوضات مع الأحزاب اليمينية واليمينية الوسطية التي لا ترغب في العمل تحت قيادته. لكن هذا المبرر يخفي خلفه اعتبارات سياسية أعمق.

على الرغم من أن حزب فيلدرز حقق انتصارًا انتخابيًا، إلا أن شركاءه المحتملين في اليمين الوسط واليمين التقليدي ترددوا في دعمه كرئيس وزراء، نظرًا لخطابه المتطرف الذي قد يضعف شرعية الحكومة داخليًا وأوروبيًا.

هولندا، كجزء من الاتحاد الأوروبي، تواجه ضغوطًا كبيرة للحفاظ على قيم الديمقراطية الليبرالية، ومع وجود حزب يقترح سياسات مثل إغلاق المساجد والمدارس الإسلامية ووقف الهجرة، فإن دعم فيلدرز كرئيس وزراء قد يؤدي إلى توترات دبلوماسية واقتصادية.

النظام السياسي في هولندا يعتمد على التوافق الحزبي، ما يجعل من الصعب على حزب واحد فرض أجندته دون دعم واسع، وهو ما فشل فيلدرز في تحقيقه.

يرى البعض أن انسحاب فيلدرز من المشهد الحكومي يمثل نكسة مؤقتة لليمين المتطرف في هولندا، لكن الحقيقة أكثر تعقيدًا:

تراجع فيلدرز لا يعني نهاية نفوذه، بل قد يكون محاولة لتعزيز مكانته في المعارضة، حيث يمكنه الاستمرار في انتقاد الحكومة دون أن يتحمل مسؤولية إخفاقاتها.

نجاح فيلدرز في الانتخابات يعكس تصاعد التيار اليميني الشعبوي في أوروبا، خاصة مع تزايد المخاوف حول الهجرة والهوية الوطنية والتدهور الاقتصادي. انسحابه قد يكون خطوة تكتيكية لإعادة الزخم لحزبه في الانتخابات القادمة بدلًا من الدخول في حكومة قد تفشل في تنفيذ أجندته الراديكالية.

إذا فشلت الحكومة القادمة في تحقيق تطلعات الناخبين، فقد يستغل فيلدرز ذلك لرفع شعبيته، وربما يعود بقوة في الانتخابات المقبلة مستفيدًا من تراجع ثقة الشعب بالأحزاب التقليدية.

ما حدث في هولندا ليس مجرد شأن داخلي، بل يحمل تداعيات أوسع على المشهد الأوروبي:

يمثل وصول حزب يميني متطرف إلى هذا المستوى من القوة اختبارًا لقدرة الديمقراطيات الأوروبية على استيعاب الأصوات الشعبوية دون المساس بقيم التعددية والانفتاح.

تصاعد نفوذ الأحزاب اليمينية المتطرفة في هولندا قد يكون مؤشرًا لما يمكن أن يحدث في دول أخرى مثل فرنسا وألمانيا وإيطاليا، حيث تشهد الأحزاب اليمينية صعودًا قويًا.

في حال نجح فيلدرز لاحقًا في تشكيل حكومة أو التأثير بقوة على السياسات الداخلية، فقد يؤدي ذلك إلى إجراءات أكثر صرامة ضد المهاجرين والأقليات الدينية، مما قد يخلق توترات اجتماعية وسياسية داخل هولندا.

في ظل المعطيات الحالية، يمكن تصور ثلاثة سيناريوهات رئيسية: فإذا لم يتمكن اليمين الوسط من تشكيل حكومة مستقرة، فقد تجرى انتخابات جديدة، ما قد يمنح فيلدرز فرصة لتعزيز موقعه وتحقيق دعم أكبر مما حصل عليه في نوفمبر 2023.

أيضاً قد يتم تشكيل حكومة بقيادة شخصيات أقل تطرفًا من فيلدرز، لكنها قد تتبنى بعض سياساته، خاصة فيما يتعلق بالهجرة واللجوء، حتى لا تفقد دعم الناخبين اليمينيين.

أما إذا فشلت الحكومة الجديدة، وكان أداء فيلدرز في المعارضة ضعيفًا، فقد يشهد اليمين المتطرف تراجعًا، خاصة إذا نجحت الحكومة في تحسين الوضع الاقتصادي وتقليل المخاوف من المهاجرين.

يبدو قرار فيلدرز بالتخلي عن رئاسة الوزراء تكتيكًا سياسيًا أكثر من كونه تراجعًا حقيقيًا. فهو يدرك أن الظروف الحالية قد لا تكون مواتية لحكمه، لكنه لا يزال يحتفظ بنفوذه، ويخطط للعودة بقوة في المستقبل.

في النهاية، لا يمثل انسحاب فيلدرز هزيمة لليمين المتطرف بقدر ما هو إعادة ترتيب للأوراق، مع احتمال أن يعود أقوى في الانتخابات القادمة. والدرس الأكبر هنا هو أن أوروبا ليست بمنأى عن تصاعد المد اليميني، وأن ما يحدث في هولندا قد يكون مجرد بداية لمرحلة سياسية جديدة في القارة.

“بعمق” زاوية أسبوعية سياسية تحليلية على “شُبّاك” يكتبها رئيس التحرير: مالك الحافظ

error: Content is protected !!