مع تصاعد الحروب في أوكرانيا وقطاع غزة، وزيادة التوترات الجيوسياسية في شرق آسيا، شهدت صناعة الأسلحة العالمية انتعاشًا ملحوظًا في العام الماضي، حيث وصلت مبيعات أكبر 100 شركة أسلحة في العالم إلى 632 مليار دولار، بزيادة نسبتها 4.2% عن العام السابق، وفقًا لتقرير حديث صادر عن معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (سيبري).
هذه الأرقام تعكس تحولات استراتيجية كبرى في سوق السلاح العالمي، حيث تمكنت العديد من الشركات التي عانت من صعوبات في تلبية الطلب خلال عام 2022 من توسيع إنتاجها في عام 2023. وكانت أبرز الظواهر المسجلة في التقرير هي أن كل شركة من الشركات المئة في القائمة حققت عائدات تزيد عن مليار دولار لأول مرة في تاريخها، مما يشير إلى دخولنا مرحلة غير مسبوقة من التصنيع العسكري العالمي.
كان من بين المناطق التي سجلت أكبر نسبة نمو في مبيعات الأسلحة منطقة الشرق الأوسط، حيث ارتفعت مبيعات شركات الأسلحة في المنطقة بنسبة 18% مدفوعة بالحرب في أوكرانيا والقتال في غزة، والذي اندلع في أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وحققت الشركات الإسرائيلية الثلاث المدرجة في القائمة إيرادات قياسية بلغت 13.6 مليار دولار، بزيادة 15%، مما يعكس تصاعد الطلب على الأسلحة الإسرائيلية، خاصة في ظل الحرب المستمرة في غزة والدعم الغربي المتزايد لإسرائيل.
أما في تركيا، فقد شهدت المجموعات الدفاعية الثلاث الكبرى، بما فيها “بايكار”، الشركة المصنعة للطائرات المسيّرة، زيادة مذهلة بنسبة 24%، لتصل إلى مبيعات تقدر بـ6 مليارات دولار. ويعكس هذا التصاعد دور أنقرة المتزايد كمنتج رئيسي للطائرات المسيّرة والأسلحة التقليدية، إلى جانب إصرارها على تعزيز استقلالها الدفاعي وتقليل اعتمادها على الموردين الخارجيين.
ويرى الخبير العسكري عمر الحاج علي أن تركيا باتت “لاعبًا رئيسيًا في صناعة المسيرات القتالية، مع زيادة اهتمام الدول الأوروبية بالحصول على المسيرات التركية المتطورة، والتي أثبتت كفاءتها في ميادين القتال من أوكرانيا إلى ليبيا”.
التوسع الروسي في الإنتاج العسكري: حرب أوكرانيا تعيد هيكلة الاقتصاد
تعد روسيا واحدة من أكبر المستفيدين من تصاعد الإنفاق العسكري العالمي، حيث سجلت المجموعتان الروسيتان المدرجتان في القائمة زيادة مذهلة في مبيعات الأسلحة بنسبة 40%.
وكانت شركة “روستيك”، التي تسيطر على معظم الصناعة الدفاعية الروسية، قد حققت زيادة في مبيعاتها بنسبة 49%، ما يعكس إعادة توجيه الاقتصاد الروسي بالكامل نحو المجهود الحربي في أوكرانيا.
ويؤكد الخبير الاقتصادي محمود عبد الجليل أن الاقتصاد الروسي “يتمحور بشكل متزايد حول الصناعات العسكرية، حيث تحولت الشركات إلى زيادة الإنتاج الحربي لتعويض الخسائر المستمرة في أوكرانيا، والاستعداد لمواجهة طويلة الأمد مع الغرب”.
الولايات المتحدة: لا تزال القوة المسيطرة رغم التحديات
لا تزال الشركات الأمريكية تهيمن على السوق العالمية للأسلحة، حيث تمثل 41 شركة أمريكية مدرجة في القائمة أكثر من نصف إجمالي مبيعات الأسلحة في العالم. لكن اللافت أن معدل النمو في المبيعات الأمريكية كان محدودًا مقارنة بالمناطق الأخرى، إذ سجلت الشركات الكبرى مثل “لوكهيد مارتن” و”رايثيون تكنولوجيز” تراجعًا بنسبة 1.6% و1.3% على التوالي.
ويعزو الباحث العسكري حسام البدري هذا التراجع إلى “التعقيدات المتزايدة في سلاسل التوريد، وصعوبة توسيع الإنتاج بالسرعة المطلوبة، وهو ما جعل الشركات الأمريكية تجد صعوبة في الاستجابة للطلب العالمي المتزايد”.
رغم التوترات المتزايدة في القارة، سجلت الشركات الأوروبية زيادة طفيفة في المبيعات بنسبة 0.2% فقط، ما يعكس تأخرًا في استجابة الصناعة الدفاعية الأوروبية للطلب المتزايد على الأسلحة.
ويشير التقرير إلى أن بعض الشركات الأوروبية الكبرى لا تزال تعمل على تنفيذ عقود قديمة، ما جعلها غير قادرة على الاستجابة الفورية لموجة إعادة التسلح التي تجتاح أوروبا منذ بداية الحرب في أوكرانيا. ومع ذلك، شهدت بعض القطاعات، مثل الذخائر والمدفعية وأنظمة الدفاع الجوي، ارتفاعًا في الطلب، خاصة من دول أوروبا الشرقية.
ويعتقد الخبير العسكري خالد النجار أن هناك “تحولات جذرية قادمة في صناعة الأسلحة الأوروبية، حيث بدأت الحكومات في تخصيص ميزانيات أكبر لتحديث الجيوش، خاصة مع تزايد القلق بشأن التهديدات الروسية والصينية”.
التصعيد في آسيا: سباق تسلح متسارع في الشرق الأقصى
تظهر الأرقام أن آسيا أصبحت ساحة رئيسية لإعادة التسلح، حيث شهدت الشركات الكورية الجنوبية زيادة بنسبة 39%، بينما ارتفعت مبيعات الشركات اليابانية بنسبة 35%.
أما في الصين، فقد تباطأت وتيرة النمو، حيث سجلت الشركات الصينية التسع المدرجة في القائمة زيادة 0.7% فقط، بسبب التباطؤ الاقتصادي الذي أثر على قطاع التصنيع العسكري. ومع ذلك، لا تزال الصين ثاني أكبر مصدر للأسلحة في العالم بعد الولايات المتحدة، حيث تستثمر بكثافة في التقنيات العسكرية المتقدمة، بما في ذلك الطائرات المسيّرة والصواريخ الباليستية.
ويقول الباحث السياسي حسن العلي إن التوترات بين الصين وتايوان، وتزايد المواجهة بين بكين وواشنطن في بحر الصين الجنوبي، تدفع الدول الآسيوية إلى زيادة الإنفاق الدفاعي بوتيرة غير مسبوقة، وهو ما يعكسه التوسع الكبير في مبيعات الأسلحة في المنطقة.
في ظل استمرار النزاعات العسكرية والتوترات الجيوسياسية، يتوقع المحللون أن تستمر صناعة الأسلحة في النمو خلال السنوات المقبلة. وتشير التوقعات إلى أن عام 2024 قد يشهد زيادة أخرى في الطلب، خاصة مع استمرار الحرب في أوكرانيا، والتوتر في غزة، وتصاعد المواجهة بين القوى الكبرى.
ويبقى السؤال الرئيسي، هل يمكن اعتبار هذه الطفرة في مبيعات الأسلحة مجرد استجابة مؤقتة للنزاعات الحالية، أم أننا نشهد بداية لسباق تسلح عالمي جديد، وكيف ستؤثر هذه الزيادة في التصنيع الحربي على استقرار الاقتصاد العالمي، وهل ستكون الصناعات الدفاعية في المستقبل موجهة نحو تقنيات جديدة مثل الأسلحة الذكية والأنظمة المسيّرة؟
مع استمرار التصعيد العسكري في مناطق عدة حول العالم، يبدو أن سوق الأسلحة يدخل مرحلة جديدة من النمو المستدام، حيث تتحول العديد من الدول إلى الاستثمار طويل الأمد في الصناعات الدفاعية، وهو ما قد يعيد تشكيل ميزان القوى العالمية في المستقبل القريب.