Spread the love

في بداية التسعينيات، انهارت جمهورية يوغوسلافيا الاشتراكية، التي كانت تعد واحدة من أكثر الدول استقراراً في أوروبا الشرقية. لكن بدلاً من انتقال سلمي نحو الديمقراطية، تحولت المنطقة إلى واحدة من أكثر ساحات الحرب وحشية في القرن العشرين. خلال أقل من عقد، تفككت الدولة إلى سبع دول مستقلة، وسط حروب أهلية، تطهير عرقي، ومذابح مروعة، أبرزها مذبحة سربرنيتسا عام 1995.

كيف انتقلت يوغوسلافيا من نموذج للتعايش بين القوميات إلى ساحة لصراعات دموية؟ وهل كان التفكك نتيجة أخطاء داخلية فقط، أم أن القوى الدولية لعبت دوراً في تسريع انهيار الدولة؟

يوغوسلافيا: الاتحاد الذي صنعه تيتو

بعد الحرب العالمية الثانية، تأسست جمهورية يوغوسلافيا الاشتراكية الفيدرالية عام 1945 تحت قيادة جوزيف بروز تيتو، الذي استطاع توحيد ست جمهوريات رئيسية (صربيا، كرواتيا، سلوفينيا، البوسنة والهرسك، الجبل الأسود، مقدونيا) وإقليمين مستقلين داخل صربيا (فويفودينا وكوسوفو).

كانت يوغوسلافيا فريدة من نوعها، حيث لم تكن تدور في فلك الاتحاد السوفييتي، رغم أنها كانت دولة شيوعية. استطاع تيتو تحقيق توازن دقيق بين القوميات المختلفة عبر سياسات قائمة على اللامركزية، وتوزيع الموارد الاقتصادية، ومنع النزعات القومية من التصاعد. لكن هذه الوحدة كانت تعتمد بشكل كبير على شخصية تيتو القوية، وعندما توفي عام 1980، بدأ النظام في التصدع تدريجياً.

تصاعد القومية: كيف أشعلت الهويات المتصارعة فتيل الحرب؟

مع تراجع النفوذ الشيوعي في أوروبا الشرقية خلال الثمانينيات، بدأت النزعة القومية تعود إلى الواجهة في يوغوسلافيا. بدأ القادة المحليون في استغلال المشاعر القومية لتعزيز سلطاتهم، خاصة في صربيا وكرواتيا، حيث لعب كل من سلوبودان ميلوشيفيتش وفرانيو تودجمان دوراً محورياً في تأجيج الانقسامات.

بحلول عام 1991، أعلنت سلوفينيا وكرواتيا استقلالهما عن يوغوسلافيا، مما أدى إلى تدخل الجيش اليوغوسلافي، الذي كان يسيطر عليه الصرب، لمحاولة منع الانفصال. سرعان ما تحولت هذه المحاولة إلى صراع عسكري، خاصة في كرواتيا، حيث اندلعت حرب أهلية بين الكروات والصرب المحليين الذين أرادوا البقاء ضمن يوغوسلافيا.

البوسنة: مسرح المجازر والتطهير العرقي

لكن الحرب الأكثر وحشية اندلعت في البوسنة والهرسك بعد إعلان استقلالها عام 1992. كانت البوسنة دولة متعددة الأعراق، تضم المسلمين البوشناق (44٪)، والصرب الأرثوذكس (31٪)، والكروات الكاثوليك (17٪). بعد الاستقلال، رفض الصرب البوسنيون الاعتراف بالحكومة الجديدة، وأعلنوا إنشاء كيانهم الخاص بدعم من صربيا.

ما تبع ذلك كان واحداً من أسوأ الصراعات في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. تعرضت العاصمة سراييفو لحصار استمر أربع سنوات من قبل القوات الصربية، التي شنت أيضاً حملات تطهير عرقي ضد المسلمين البوشناق، مما أدى إلى مذابح مروعة، أبرزها مذبحة سربرنيتسا عام 1995، حيث قُتل أكثر من 8,000 مسلم بوسني في أيام قليلة تحت أنظار قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة.

دور القوى الدولية: هل كانت أوروبا والغرب متواطئين؟

رغم الفظائع التي ارتكبت في يوغوسلافيا، كان رد الفعل الدولي بطيئاً ومتردداً. في البداية، تبنت أوروبا والولايات المتحدة سياسة عدم التدخل، معتبرة أن الصراع “نزاع داخلي”. لكن بعد أن تصاعدت الفظائع، بدأت الضغوط الدولية تتزايد، خاصة بعد أن كشفت وسائل الإعلام العالمية عن المجازر والتطهير العرقي.

أدى ذلك إلى تدخل حلف الناتو أخيراً عام 1995، حيث شنت قواته ضربات جوية ضد القوات الصربية، مما أجبرها على القبول باتفاقية دايتون، التي أنهت الحرب في البوسنة. في عام 1999، تدخل الناتو مرة أخرى في كوسوفو، بعد أن شن الجيش الصربي حملة قمع ضد الألبان الكوسوفيين، مما أدى إلى حملة قصف واسعة انتهت باستقلال كوسوفو عن صربيا عام 2008.

ماذا بقي من يوغوسلافيا اليوم؟

اليوم، تتكون المنطقة التي كانت تُعرف بيوغوسلافيا من سبع دول مستقلة، لكن آثار الحروب لا تزال حاضرة بقوة. لا تزال العلاقات بين صربيا وكوسوفو متوترة، فيما تعاني البوسنة من انقسامات سياسية حادة بين مكوناتها العرقية، حيث لا يزال اتفاق دايتون يحكم البلاد بنظام معقد يقسم السلطة بين الصرب والكروات والمسلمين.

كما أن بعض القادة الذين لعبوا دوراً في الحروب، مثل سلوبودان ميلوشيفيتش ورادوفان كاراديتش، تمت محاكمتهم أمام المحكمة الجنائية الدولية بتهم جرائم الحرب، لكن الكثير من الجناة لم يتم تقديمهم للعدالة، مما يجعل الجروح لا تزال مفتوحة في المجتمعات المتأثرة بالصراع.

يبقى السؤال الكبير: هل كان يمكن الحفاظ على يوغوسلافيا لو تم اتباع سياسات مختلفة بعد وفاة تيتو؟ البعض يعتقد أن الفيدرالية كانت ستنهار في جميع الأحوال بسبب التوترات العرقية والتفاوتات الاقتصادية بين الجمهوريات. لكن آخرين يرون أن القادة السياسيين في التسعينيات لعبوا دوراً حاسماً في تأجيج الكراهية، وأن تفكك يوغوسلافيا لم يكن قدراً محتوماً، بل كان نتيجة قرارات خاطئة وحسابات سياسية قصيرة النظر.

ما هو مؤكد أن تجربة يوغوسلافيا تقدم درساً مهماً حول مخاطر القومية المتطرفة، وكيف يمكن للهويات المتصارعة أن تؤدي إلى حروب مدمرة، حتى في الدول التي كانت تبدو موحدة ومستقرة. يبقى التفكك اليوغوسلافي واحداً من أكثر الأمثلة دموية على كيف يمكن لدولة متعددة الأعراق أن تنهار عندما يتم استغلال الفروقات العرقية والدينية لتحقيق مكاسب سياسية.

error: Content is protected !!