Spread the love

تتزايد المؤشرات على تعمق التقارب بين الرياض وبكين في ظل حالة من التوتر المتصاعد بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية، على خلفية قرارات تحالف “أوبك+” الأخيرة بخفض إنتاج النفط. في هذا السياق، جاء لقاء نائب وزير الخارجية السعودي، وليد الخريجي، مع السفير الصيني لدى المملكة، تشن وي تشينغ، كجزء من مشهد أوسع تعيد فيه الرياض رسم خريطة علاقاتها الاستراتيجية، بعيداً عن الاصطفافات التقليدية التي سادت طوال العقود الماضية.

لم يكن قرار “أوبك+” في الخامس من أكتوبر القاضي بخفض الإنتاج بمقدار مليوني برميل يومياً مجرد إجراء اقتصادي، بل حمل في طياته أبعاداً جيوسياسية بالغة الأهمية. فقد أدى القرار إلى ارتفاع أسعار النفط بنحو 10%، ما دفع واشنطن إلى توجيه انتقادات حادة للرياض، متهمة إياها بالانحياز إلى روسيا في ظل الحرب الدائرة في أوكرانيا. الرئيس الأمريكي جو بايدن لم يخفِ امتعاضه، محذراً المملكة من “عواقب” لم يحدد ماهيتها، في إشارة ضمنية إلى إمكانية إعادة تقييم العلاقات الثنائية.

عبد الرحمن العتيبي، الباحث في العلاقات الدولية بمركز الخليج للدراسات الاستراتيجية، يرى أن قرار السعودية لم يكن موجهاً ضد واشنطن بقدر ما كان تعبيراً عن رؤية اقتصادية مستقلة. ويوضح: “السعودية تدير سياساتها النفطية وفقاً لمصالحها القومية، وليس بناءً على الاعتبارات الأمريكية. من منظور الرياض، فإن ضبط سوق النفط ضروري لتحقيق الاستقرار الاقتصادي، ولا يجب أن يكون رهينة لمصالح القوى الكبرى”.

لكن في المقابل، يرى آخرون أن التحرك السعودي لم يكن فقط اقتصادياً، بل أيضاً سياسياً، إذ يتماشى مع نهج أوسع تتبناه المملكة لتعزيز استقلالها الاستراتيجي عن واشنطن، من خلال توسيع خياراتها الدبلوماسية وتوثيق علاقاتها مع قوى عالمية أخرى، مثل الصين.

الصين كبديل استراتيجي: هل يقترب التحالف؟

لقاء وليد الخريجي بالسفير الصيني يأتي في هذا السياق، حيث تبدو بكين أكثر حضوراً في السياسة السعودية. فالصين، التي تعد الشريك التجاري الأكبر للمملكة، تسعى منذ سنوات إلى تعزيز تعاونها مع دول الخليج، ليس فقط اقتصادياً، ولكن أيضاً سياسياً وعسكرياً.

ليو جيانغ، الباحث في معهد العلاقات الدولية بجامعة بكين، يوضح أن الصين تدرك أهمية السعودية كلاعب محوري في الشرق الأوسط، ويقول: “بكين لا تهدف فقط إلى ضمان إمدادات الطاقة، ولكن أيضاً إلى تعزيز حضورها الجيوسياسي في المنطقة، في ظل التراجع النسبي للدور الأمريكي”.

ويشير إلى أن العلاقات السعودية – الصينية شهدت تطوراً لافتاً خلال السنوات الماضية، حيث توسع التعاون في مجالات عدة، بدءاً من الطاقة والتكنولوجيا، وصولاً إلى الأمن والدفاع. فالرياض كانت من أوائل العواصم الخليجية التي أبدت اهتماماً بمنظومة الاتصالات الصينية “هواوي”، رغم الضغوط الأمريكية، كما تجري محادثات متقدمة بشأن تعزيز التعاون العسكري، بما في ذلك إمكانية شراء أنظمة تسليح صينية متطورة.

السعودية تدرك أن علاقاتها مع الصين ستظل ملفاً حساساً بالنسبة لواشنطن، التي ترى في بكين منافسها الرئيسي على الساحة الدولية. الإدارة الأمريكية تعتبر أن أي تقارب بين شركائها التقليديين وبكين يمثل تهديداً لنفوذها، وهو ما يفسر التصريحات الأخيرة الصادرة عن مسؤولين أمريكيين بخصوص إعادة النظر في العلاقة مع السعودية.

لكن رغم ذلك، يبدو أن الرياض ماضية في نهجها الجديد، مدركة أن العالم لم يعد أحادياً كما كان في العقود السابقة. فمع تزايد التوتر بين الصين والولايات المتحدة، تسعى المملكة إلى تحقيق توازن استراتيجي، بحيث تستفيد من علاقاتها مع القوتين العظميين دون الانحياز الكامل لأي منهما.

أفق العلاقات السعودية – الأمريكية: إلى أين؟

لا يعني التصعيد الحالي بالضرورة قطيعة بين الرياض وواشنطن، لكنه يشير إلى إعادة تشكيل للعلاقة بين الطرفين. فالولايات المتحدة لا تزال ترى في السعودية شريكاً مهماً، سواء في قضايا الطاقة أو الأمن الإقليمي، لكن من الواضح أن العلاقة لم تعد محكومة بالمعادلة التقليدية التي سادت خلال العقود الماضية.

العتيبي يرى أن “السعودية لا تبحث عن مواجهة مع الولايات المتحدة، لكنها في الوقت نفسه لن تقبل بأن تملي عليها واشنطن سياساتها”. ويضيف: “ما نشهده اليوم هو إعادة ضبط للعلاقات، حيث تسعى الرياض إلى تأكيد استقلالها في اتخاذ قراراتها السيادية، مع الإبقاء على قنوات التعاون مع واشنطن مفتوحة”.

أما على المدى البعيد، فإن مستقبل العلاقة سيعتمد على مدى قدرة الطرفين على تجاوز الخلافات الحالية وإعادة بناء الثقة المتبادلة. فهل ستقبل واشنطن بواقع جديد تكون فيه الرياض أكثر استقلالية في قراراتها؟ أم أن التصعيد سيستمر، مما يدفع المملكة إلى تعزيز تحالفاتها خارج الإطار التقليدي؟

ما يجري اليوم هو مؤشر على تحول في طبيعة العلاقات الدولية، حيث لم تعد التحالفات خاضعة للثنائية الصارمة التي ميزت العقود الماضية. والسعودية، باعتبارها قوة إقليمية مؤثرة، تدرك أن تعدد الخيارات هو مفتاح الحفاظ على مكانتها.

في ظل هذه المعادلة، يبدو أن الرياض ماضية في مسارها، حيث تعيد ترتيب علاقاتها الخارجية بناءً على مصالحها الاستراتيجية، وليس وفقاً للإملاءات التقليدية. وبينما تسعى واشنطن لإعادة تقييم علاقتها بالمملكة، تبدو الصين مستعدة لملء أي فراغ محتمل، ما يجعل المرحلة المقبلة حاسمة في تحديد ملامح النظام الإقليمي الجديد.

error: Content is protected !!