بينما تواجه تونس أزمة مالية متفاقمة، تعوّل الحكومة على خطط تقشفية وإجراءات ضريبية صارمة من أجل خفض العجز المالي إلى 5.5% في 2025 بعد أن كان متوقعاً عند 6.3% في 2024. هذا التوجه يأتي في ظل غياب اتفاق مع صندوق النقد الدولي، الذي كان من المفترض أن يقدم دعماً حاسماً لمساعدة البلاد على استعادة التوازن المالي.
مشروع قانون الموازنة الجديد يكشف عن خطوات تهدف إلى تعزيز الإيرادات العامة من خلال رفع الضرائب على الفئات الأعلى دخلاً وعلى الشركات الكبرى، في حين تشير تقديرات الحكومة إلى أن معدل النمو الاقتصادي سيشهد ارتفاعاً إلى 3.2% العام المقبل مقارنة بـ 2.1% هذا العام. إلا أن هذه التوقعات تقف أمام تحديات كبيرة، أبرزها استمرار الأزمات الهيكلية التي تعاني منها البلاد، مثل ارتفاع معدل التضخم، وتراجع القدرة الشرائية، وصعوبة الحصول على تمويل خارجي بشروط ميسرة.
تراهن الحكومة بشكل واضح على زيادة الضرائب لتعويض العجز المالي. وفق مشروع الموازنة، فإن الضرائب على الأفراد الذين يتجاوز دخلهم السنوي 50 ألف دينار سترتفع من 35% إلى 40%، كما ستخضع الشركات التي تفوق مبيعاتها 20 مليون دينار لزيادة في الضرائب لتصل إلى 25% بعدما كانت 15%. وتقول السلطات إن هذا التوجه يهدف إلى تحقيق “عدالة ضريبية” عبر زيادة مساهمة الفئات القادرة على الدفع، مقابل تخفيف الأعباء الضريبية عن ذوي الدخل المحدود.
لكن هذا الإجراء يثير قلقاً كبيراً في أوساط رجال الأعمال والخبراء الاقتصاديين، إذ يرى البعض أن زيادة الضرائب على الشركات الكبرى قد تؤدي إلى تراجع الاستثمارات، وربما خروج بعض المؤسسات الكبرى من السوق التونسية بحثاً عن بيئة ضريبية أكثر جاذبية.
الخبير الاقتصادي نزار العبيدي يقول إن “الضرائب المرتفعة قد تؤدي إلى هروب رؤوس الأموال وتقليص قدرة المؤسسات الكبرى على التوسع، ما سيؤثر سلباً على معدلات النمو وخلق فرص العمل”. ويوضح أن “الحكومة تحتاج إلى توسيع القاعدة الضريبية عبر تحسين التحصيل الضريبي وتقليص التهرب، بدلاً من فرض زيادات قد تؤثر على تنافسية الاقتصاد”.
تحديات الدين العام والإنفاق الحكومي
رغم السياسات الجديدة، لا تزال تونس تواجه ضغوطاً مالية كبيرة، حيث تهدف الحكومة إلى خفض الدين العام إلى 80.5% من الناتج المحلي الإجمالي في 2025 مقارنة بـ 82.2% في 2024. لكن تحقيق هذا الهدف يبدو معقداً في ظل ارتفاع تكاليف خدمة الدين، وغياب اتفاق مع صندوق النقد الدولي، الذي كان سيتيح لتونس الوصول إلى تمويلات ميسرة من جهات مانحة أخرى.
الخبيرة المالية منى بن رمضان تحذر من أن “الاعتماد الكبير على الضرائب كمصدر رئيسي للإيرادات قد يكون غير مستدام، خاصة إذا أدى إلى انكماش النشاط الاقتصادي”. وتشير إلى أن “الحل يجب أن يكون في إعادة هيكلة الإنفاق الحكومي، وتوجيه الاستثمارات نحو القطاعات المنتجة بدلاً من الاعتماد على فرض ضرائب جديدة”.
وفيما تتوقع الحكومة أن يصل حجم الميزانية في 2025 إلى 78.2 مليار دينار، بزيادة 3.3% عن العام الحالي، فإنها تهدف أيضاً إلى خفض كتلة الأجور إلى 13.3% من الناتج المحلي الإجمالي بعد أن كانت 13.6% هذا العام. لكن هذا التوجه قد يواجه صعوبات كبيرة في ظل الضغوط الاجتماعية وارتفاع تكاليف المعيشة، ما يجعل أي محاولة لتقليص الإنفاق الحكومي محفوفة بالمخاطر السياسية والاجتماعية.
الإصلاحات المالية بين الضرورة والنتائج المحتملة
في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة، يبقى التساؤل الأساسي هو ما إذا كانت هذه الإجراءات قادرة على تحقيق الاستقرار المالي دون أن تؤدي إلى تباطؤ اقتصادي إضافي. تونس ليست الدولة الوحيدة التي تواجه تحديات في تحقيق توازن بين ضبط المالية العامة ودعم النمو، لكنها في وضع أكثر تعقيداً بسبب افتقارها إلى احتياطات مالية قوية، واعتمادها الكبير على الاقتراض الخارجي.
الخبير الاقتصادي هيثم السالمي يرى أن “الحكومة قد تكون مضطرة إلى اتخاذ خطوات أكثر جذرية، مثل تحسين مناخ الاستثمار، وتقليل البيروقراطية، وتسهيل إجراءات جذب المستثمرين الأجانب، بدلاً من الاعتماد على الحلول الضريبية وحدها”. ويضيف: “أي خطة إصلاحية تحتاج إلى رؤية متكاملة تشمل إصلاحات اقتصادية وهيكلية، وليس مجرد إجراءات ضريبية لمعالجة العجز المالي”.
بينما تسعى الحكومة إلى تحقيق التوازن المالي، فإن نجاح خطتها سيعتمد بشكل أساسي على قدرتها على تنفيذ إصلاحات حقيقية تحفز الاقتصاد، وليس فقط على فرض ضرائب إضافية. في غياب توافق سياسي واسع، وتحسن في مناخ الأعمال، فإن تونس قد تجد نفسها مضطرة إلى اللجوء مجدداً إلى الاقتراض بشروط أكثر صرامة، ما قد يعمّق الأزمة بدلاً من حلها.
ويبقى السؤال الأهم: هل تستطيع تونس تجنب سيناريوهات التقشف الحاد التي شهدتها بعض الدول الأخرى؟ أم أن هذه السياسات ستؤدي إلى مزيد من التباطؤ الاقتصادي والتوترات الاجتماعية؟