Spread the love

يُعد التلوث البلاستيكي واحدًا من أكبر التحديات البيئية في العصر الحديث، حيث تنتج البشرية أكثر من 400 مليون طن من البلاستيك سنويًا، يتم التخلص من جزء كبير منه في البحار والمحيطات، مما يؤدي إلى كارثة بيئية تهدد الحياة البحرية. في ظل هذه الأزمة، بدأ العلماء في تطوير البلاستيك الحيوي كبديل مستدام للبلاستيك التقليدي، وهو مادة تُصنع من مصادر طبيعية قابلة للتحلل، مثل النباتات والنشا والطحالب. لكن هل يمكن لهذه المادة أن تكون الحل النهائي لمشكلة التلوث البلاستيكي، أم أنها مجرد بديل يحمل تحديات بيئية أخرى؟

كيف أصبح البلاستيك تهديدًا عالميًا؟

عندما تم اختراع البلاستيك في أوائل القرن العشرين، كان يُعتبر ثورة صناعية ساعدت في تسهيل الحياة اليومية، لكن على مدار العقود الماضية، تحول إلى كابوس بيئي، حيث أن معظم أنواع البلاستيك التقليدي تحتاج إلى مئات السنين للتحلل، مما يؤدي إلى تراكم هائل للنفايات البلاستيكية في الطبيعة.

تشير التقارير البيئية إلى أن أكثر من 14 مليون طن من البلاستيك ينتهي بها المطاف في المحيطات سنويًا، مما يؤدي إلى قتل ملايين الكائنات البحرية التي تبتلع هذه المخلفات أو تختنق بها. كما أن الجزيئات البلاستيكية الدقيقة أصبحت تدخل في السلسلة الغذائية للبشر، حيث تم العثور عليها في الأسماك والمياه وحتى في أجساد البشر أنفسهم.

يقول الدكتور نزار حميدان، أستاذ علم البيئة، إن “البلاستيك التقليدي ليس مجرد مشكلة بيئية، بل أصبح مشكلة صحية أيضًا، حيث أن الجزيئات البلاستيكية الدقيقة التي تتسلل إلى مياه الشرب والطعام قد يكون لها آثار خطيرة على صحة الإنسان على المدى الطويل”.

البلاستيك الحيوي هو نوع من البلاستيك الذي يتم تصنيعه من مواد طبيعية متجددة مثل الذرة، وقصب السكر، ونشا البطاطس، وحتى الطحالب البحرية. يتم تصميم هذه المواد بحيث تكون قابلة للتحلل البيولوجي، مما يعني أنها تتحلل خلال فترة قصيرة مقارنة بالبلاستيك التقليدي، ولا تترك وراءها مواد سامة.

هناك نوعان رئيسيان من البلاستيك الحيوي:

البلاستيك القابل للتحلل بيولوجيًا (Biodegradable Plastic): وهو البلاستيك الذي يتحلل بفعل الكائنات الحية الدقيقة في البيئة.
البلاستيك القائم على المواد الحيوية (Bio-based Plastic): وهو مصنوع من مصادر نباتية، لكنه لا يكون دائمًا قابلًا للتحلل بالكامل.

بدأت بعض الشركات العالمية في استخدام البلاستيك الحيوي في المنتجات الاستهلاكية، حيث أطلقت شركات مثل كوكاكولا وماكدونالدز وستاربكس عبوات وأكواب مصنوعة من البلاستيك الحيوي بدلاً من البلاستيك التقليدي، في محاولة للحد من التأثير البيئي.

هل البلاستيك الحيوي بديل مثالي؟

رغم الحماس المحيط بالبلاستيك الحيوي، إلا أنه ليس حلًا سحريًا، حيث يواجه بعض التحديات البيئية والاقتصادية، ومنها:

الاستهلاك الكبير للموارد الزراعية: إنتاج البلاستيك الحيوي يتطلب كميات كبيرة من المحاصيل الزراعية مثل الذرة وقصب السكر، مما قد يؤدي إلى الضغط على موارد المياه والتربة، وربما يؤثر على الأمن الغذائي العالمي.
عدم التحلل في بعض الظروف: بعض أنواع البلاستيك الحيوي تحتاج إلى ظروف بيئية محددة جدًا للتحلل، مثل درجات حرارة مرتفعة أو بيئات رطبة، مما يعني أنها قد تبقى في البيئة لفترات أطول مما كان متوقعًا.
التكلفة العالية مقارنة بالبلاستيك التقليدي: حتى الآن، لا تزال تكلفة إنتاج البلاستيك الحيوي أعلى بكثير من تكلفة البلاستيك التقليدي، مما يجعل الشركات مترددة في التحول إليه بالكامل.

يؤكد الدكتور هشام الغاني، الباحث في الكيمياء البيئية، أن “البلاستيك الحيوي قد يكون خطوة جيدة، لكنه ليس الحل النهائي. لا يمكننا فقط استبدال البلاستيك التقليدي بمادة جديدة دون النظر في العواقب البيئية المحتملة لاستخدام الموارد الزراعية بشكل مكثف”.

في العالم العربي، لا يزال استخدام البلاستيك الحيوي في مراحله الأولى، لكن هناك بعض المبادرات الواعدة:

الإمارات: أطلقت مشاريع لتشجيع استخدام البلاستيك القابل للتحلل، وتم إصدار قوانين تمنع استخدام البلاستيك التقليدي في بعض المنتجات مثل الأكياس البلاستيكية ذات الاستخدام الواحد.
مصر: بدأت بعض الشركات الناشئة في تصنيع عبوات بلاستيكية حيوية تعتمد على نشا الذرة، وتُستخدم في بعض متاجر التجزئة الكبرى.
المغرب: تم إطلاق مبادرات لإنتاج البلاستيك الحيوي من مخلفات الزراعة، في محاولة لخلق اقتصاد دائري أكثر استدامة.

هل يمكن أن يكون البلاستيك الحيوي جزءًا من الحل؟

رغم التحديات، فإن البلاستيك الحيوي يمكن أن يكون جزءًا من استراتيجية أوسع لمكافحة التلوث البلاستيكي، لكنه لا يمكن أن يكون الحل الوحيد. بعض البدائل الأخرى التي يمكن أن تلعب دورًا في تقليل البلاستيك تشمل:

إعادة التدوير بفعالية أكبر: حيث يتم تحسين أنظمة إعادة تدوير البلاستيك الحالي بدلًا من إنتاج كميات جديدة منه.
استخدام المواد القابلة للتحلل الطبيعي: مثل الورق، والزجاج، والمعادن، والتي يمكن إعادة تدويرها أو تحللها بشكل طبيعي دون تأثير بيئي كبير.
تقليل الاستهلاك: عبر تغيير سلوكيات المستهلكين، مثل استخدام أكياس قابلة لإعادة الاستخدام، وتجنب شراء المنتجات المغلفة بالبلاستيك، واختيار عبوات زجاجية أو معدنية بدلًا من البلاستيكية.

يقول نزار الفهري، أستاذ الاقتصاد البيئي، إن “المشكلة ليست فقط في المادة التي نستخدمها، بل في ثقافة الاستهلاك نفسها. إذا لم نغير طريقة استهلاكنا للبلاستيك، فإن أي بديل، سواء كان بلاستيكًا حيويًا أو أي مادة أخرى، قد لا يكون كافيًا”.

مع تصاعد الوعي البيئي والضغط المتزايد على الحكومات والشركات لتقليل استخدام البلاستيك، يبدو أن المستقبل قد يشهد تحولًا تدريجيًا نحو مواد أكثر استدامة. السؤال الحقيقي هو: هل يمكن للعالم أن يتخلى عن البلاستيك تمامًا، أم أن البحث عن بدائل سيظل مستمرًا دون حلول نهائية؟

إذا استمر الابتكار في تطوير مواد جديدة، وإذا نجحت الحكومات في فرض تشريعات أكثر صرامة، فقد نرى يومًا ما اختفاء البلاستيك التقليدي من حياتنا، ليحل محله جيل جديد من المواد التي تحترم البيئة وتحافظ على صحة الإنسان والكوكب. لكن حتى ذلك الحين، يظل التحدي الأكبر هو تغيير عادات الاستهلاك، لأن الحل الحقيقي لا يكمن فقط في المادة، بل في الطريقة التي نستخدم بها مواردنا ونحافظ على كوكبنا للأجيال القادمة.

error: Content is protected !!