Spread the love

بعد سنوات من الجمود والمفاوضات المتعثرة، أعلن وزير الخارجية الإسباني خوسيه مانويل ألباريس أن بلاده “قريبة جدًا” من التوصل إلى اتفاق نهائي مع لندن بشأن مستقبل حرية تنقل الأشخاص ونقل البضائع بين جبل طارق وإسبانيا، وهي القضية التي ظلت نقطة خلاف رئيسية منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في 2020.

يأتي هذا الإعلان في ظل اجتماع وزراء خارجية حلف الناتو في بروكسل، حيث أجرى ألباريس محادثات مباشرة مع نظيره البريطاني ديفيد كاميرون، الذي أعرب عن “رغبته في إحراز تقدم” في هذا الملف، وهو ما يعكس نوايا الطرفين للوصول إلى حل يوازن بين المصالح البريطانية والإسبانية، ويضمن استقرار المنطقة التي طالما كانت محور توترات دبلوماسية بين البلدين.

في اللحظات الأخيرة من عام 2020، توصلت مدريد ولندن إلى اتفاق إطار يهدف إلى الحفاظ على حرية الحركة بين جبل طارق وإسبانيا رغم تداعيات بريكست، وهو ما اعتُبر حينها إنجازًا دبلوماسيًا مهمًا للطرفين. لكن المشكلة أن هذا الاتفاق ظل غير مكتمل، حيث تعثرت المفاوضات بشأن توقيع اتفاق نهائي يحسم الوضع القانوني والجمركي للمنطقة بشكل دائم.

خالد سلامة، الباحث في الشؤون الأوروبية، يرى أن “جبل طارق يمثل واحدة من القضايا الأكثر تعقيدًا بين مدريد ولندن، فإسبانيا تريد استعادة السيطرة الجزئية على المنطقة بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بينما تحاول لندن ضمان استقلالية جبل طارق وعدم المساس بسيادتها”.

“منطقة ازدهار مشتركة”: الحل الأمثل أم تنازل سياسي؟

منذ أكثر من عام، اقترحت إسبانيا والمفوضية الأوروبية على بريطانيا إنشاء “منطقة ازدهار مشتركة” بين جبل طارق وإسبانيا، بحيث تتولى مدريد مراقبة الحدود الخارجية للجيب البريطاني باسم منطقة شنغن، ما يعني عمليًا إلغاء الحدود البرية بين الجانبين، وضمان سهولة التنقل للأشخاص والبضائع.

هذا المقترح أثار ردود فعل متباينة، حيث أبدى البعض ترحيبًا به باعتباره خطوة نحو تعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري، بينما رأى آخرون أنه قد يمثل تفريطًا من بريطانيا في سيادتها على جبل طارق، خاصة إذا أصبحت إسبانيا هي المسؤولة عن ضبط الحدود الخارجية.

رامي كامل، الخبير في الشؤون الدبلوماسية، يؤكد أن “هذا الاتفاق قد يكون أفضل ما يمكن تحقيقه في ظل الظروف الحالية، لكنه يبقى محفوفًا بالمخاطر، حيث يمكن أن يثير معارضة داخلية في بريطانيا، خاصة بين المحافظين المتشددين الذين يعتبرون جبل طارق جزءًا غير قابل للتفاوض من المملكة المتحدة”.

المخاوف البريطانية: هل تقبل لندن بالتنازل عن سيادة الحدود؟

رغم أن المفاوضات شهدت تقدمًا ملحوظًا، فإن لندن لا تزال مترددة بشأن السماح لإسبانيا بمراقبة حدود جبل طارق نيابةً عنها، حيث تخشى أن يكون هذا الإجراء بمثابة تنازل ضمني عن سيادتها على الجيب البريطاني، الذي ظل محل نزاع بين البلدين منذ عام 1713، عندما تخلت عنه إسبانيا بموجب معاهدة أوترخت لصالح بريطانيا.

القلق في بريطانيا يتزايد خاصة بين أوساط القوميين والمحافظين الذين يخشون أن يكون هذا الاتفاق مدخلًا لإسبانيا لاستعادة نفوذها على المنطقة، وهو ما يفسر التأخر في التوصل إلى اتفاق نهائي رغم مرور أكثر من ثلاث سنوات على اتفاق الإطار.

رامي كامل، الخبير في الشؤون الدبلوماسية، يقول إن “هناك تيارًا داخل الحكومة البريطانية يرى أن السماح لإسبانيا بمراقبة الحدود قد يكون مقدمة لمطالب سيادية أكبر، لذلك تسعى لندن إلى إيجاد حل وسط يحافظ على الترتيبات التجارية والتنقل الحر دون المساس بمسألة السيادة”.

موقف جبل طارق: بين الرغبة في الاستقرار والخوف من التبعية لإسبانيا

من جانبها، رحبت حكومة جبل طارق بـ “استئناف المفاوضات”، مؤكدة أنها تعمل “بتنسيق وثيق” مع لندن لضمان التوصل إلى اتفاق نهائي في أسرع وقت ممكن.

جبل طارق، الذي صوّت بأغلبية ساحقة ضد بريكست في الاستفتاء عام 2016، يواجه تحديات اقتصادية كبيرة منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، حيث أصبح الوصول إلى الأسواق الأوروبية أكثر تعقيدًا، ما يجعل أي اتفاق مع إسبانيا ضرورة اقتصادية للمنطقة.

لكن في الوقت ذاته، هناك مخاوف داخل جبل طارق من أن يؤدي أي اتفاق جديد إلى وضع المنطقة تحت نفوذ مدريد بشكل غير مباشر، خاصة إذا أصبحت إسبانيا مسؤولة عن مراقبة الحدود الخارجية.

خالد سلامة، الباحث في الشؤون الأوروبية، يعتقد أن “سكان جبل طارق يريدون حلًا يضمن لهم حرية الحركة والتجارة، لكنهم في الوقت نفسه يخشون أن يكون ذلك على حساب استقلاليتهم، خاصة مع تصاعد الأصوات القومية في إسبانيا التي لا تزال ترى في جبل طارق جزءًا من أراضيها”.

ومع اقتراب المفاوضات من مرحلتها النهائية، تبدو الاحتمالات مفتوحة على عدة سيناريوهات:

إذا تم إبرام الاتفاق، فسيتم إلغاء الحدود البرية بين إسبانيا وجبل طارق، وستتولى مدريد مسؤولية ضبط الحدود الخارجية للجيب البريطاني، مما يسمح باستمرار التجارة والتنقل الحر كما كان الحال قبل بريكست.

في حال فشلت المفاوضات، فقد تواجه المنطقة تداعيات اقتصادية خطيرة، حيث ستصبح الحركة بين جبل طارق وإسبانيا مقيدة، مما قد يضر بالاقتصاد المحلي للمنطقة التي تعتمد بشكل كبير على التجارة مع الاتحاد الأوروبي.

السيناريو الأقل ترجيحًا هو أن تؤدي هذه المفاوضات إلى تغيير في الوضع القانوني لجبل طارق، وهو أمر قد يثير أزمة دبلوماسية بين مدريد ولندن، لكنه يبقى احتمالًا ضعيفًا في الوقت الحالي.

يبدو أن مدريد ولندن تقتربان من التوصل إلى تسوية تاريخية بشأن جبل طارق، لكن السؤال الأهم هو: هل سيكون هذا الاتفاق مستدامًا أم أنه مجرد هدنة مؤقتة ستعيد إشعال النزاع مستقبلاً؟

في ظل الأجواء السياسية المتوترة داخل بريطانيا، ومع استمرار التوترات القومية في إسبانيا، قد يكون هذا الاتفاق مجرد مرحلة انتقالية، ما لم يتم التوصل إلى صيغة تضمن لكل الأطراف مصالحها دون المساس بسيادة أي طرف.

وفي نهاية المطاف، يظل جبل طارق رمزًا لتعقيدات الإرث الاستعماري الأوروبي، حيث يتشابك التاريخ مع المصالح الاقتصادية والسياسية، في صراع لم تُكتب فصوله الأخيرة بعد.

error: Content is protected !!