بينما تتجه الأنظار إلى الحركات النسوية في المدن الكبرى، حيث تصل أصوات الناشطات إلى الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، تعيش النساء في المناطق الريفية والمهمشة معركة أكثر تعقيدًا، حيث لا يقتصر التمييز ضدهن على الأدوار الجندرية التقليدية، بل يتفاقم بسبب الفقر، والتهميش الاقتصادي، والعزلة الاجتماعية. ورغم هذه التحديات، تناضل العديد من النساء الريفيات والعاملات في القطاعات غير الرسمية لإيجاد مساحة لحقوقهن، سواء من خلال المبادرات المحلية أو عبر شبكات التضامن النسوي التي تعمل في الظل بعيدًا عن الضوء الإعلامي.
المرأة في الريف: هل المعركة مزدوجة؟
في المجتمعات الريفية، تواجه النساء تمييزًا مركبًا يجمع بين الهيمنة الذكورية والفقر البنيوي، مما يجعلهن أكثر عرضة للحرمان من التعليم، والرعاية الصحية، والفرص الاقتصادية. ففي بعض القرى والمناطق المهمشة في مصر، المغرب، واليمن، لا تزال العادات القبلية تحدد مصير النساء، حيث يتم تزويج الفتيات في سن مبكرة، ويقتصر دورهن على العمل المنزلي أو الزراعي، دون أي اعتراف قانوني أو اقتصادي بمساهماتهن.
توضح الباحثة السودانية آسية محمود، المتخصصة في دراسات الجندر والتنمية، أن “النساء في المناطق الريفية يواجهن نظامًا مزدوجًا من القمع، حيث يتم إخضاعهن أولًا من خلال الأعراف والتقاليد التي تحصرهن في أدوار محددة، ثم من خلال غياب السياسات الحكومية الداعمة لتمكينهن اقتصاديًا وتعليميًا.”
وتشير إلى أن “في بعض المناطق، لا تزال المرأة الريفية تعاني من حرمانها من أبسط الحقوق، مثل حقها في الميراث، أو حتى في اتخاذ قراراتها الخاصة بشأن العمل أو الزواج.”
العمل غير الرسمي: كيف تستغل النساء اقتصاديًا؟
تشكل النساء في المناطق الريفية الجزء الأكبر من القوى العاملة في الزراعة، الصناعة التقليدية، والعمل المنزلي، لكنهن غالبًا ما يعملن بدون حماية قانونية أو ضمانات اجتماعية. في المغرب وتونس، تساهم النساء بنسبة كبيرة في القطاع الزراعي، لكنهن يتقاضين أجورًا أقل بكثير من الرجال، ولا يتمتعن بأي ضمان اجتماعي، مما يجعلهن عرضة للاستغلال والانتهاكات.
يقول الباحث المصري سليم حجازي، المختص في الاقتصاد الاجتماعي، إن “إحدى أكبر المشكلات التي تواجه النساء في الهامش هي غياب الاعتراف القانوني بعملهن. المرأة الريفية تعمل لساعات طويلة، سواء في الحقول أو في المصانع الصغيرة، لكنها لا تُعتبر عاملة رسمية، مما يعني أنها لا تحصل على أي حقوق مثل التأمين الصحي أو التقاعد.”
ويضيف أن “هذه المشكلة ليست اقتصادية فقط، بل هي أيضًا قضية جندرية، لأن المجتمع يرى في عمل المرأة الريفية مجرد امتداد لدورها التقليدي، وليس كجزء من الاقتصاد الوطني.”
إحدى أبرز العقبات التي تواجه النساء في المناطق المهمشة هي ضعف الوصول إلى التعليم والخدمات الصحية. في بعض القرى، لا تزال الفتيات يحرمن من استكمال تعليمهن بسبب عدم توفر المدارس القريبة، أو بسبب الأعراف التي تفرض على الفتاة البقاء في المنزل بعد سن معينة.
وتشير آسية محمود إلى أن “الحرمان من التعليم هو أحد أقوى أدوات القمع ضد النساء في المناطق الريفية، لأن الجهل يُستخدم كأداة للسيطرة عليهن. عندما لا تتلقى الفتاة تعليمًا، يصبح من السهل التحكم في قراراتها وإجبارها على الزواج أو العمل في وظائف منخفضة الأجر دون أي فرصة لتحسين وضعها.”
كما أن الرعاية الصحية في هذه المناطق تعاني من ضعف شديد، مما يؤدي إلى ارتفاع نسب وفيات الأمهات أثناء الولادة، وانتشار الأمراض المرتبطة بالفقر مثل فقر الدم وسوء التغذية.
ورغم كل هذه التحديات، فإن النساء في المناطق الريفية والمهمشة لم يكنّ يومًا مجرد ضحايا صامتات، بل لعبن دورًا رئيسيًا في بناء حركات نسوية محلية تعتمد على التضامن الاجتماعي والمبادرات الذاتية.
في مصر، المغرب، والأردن، ظهرت مبادرات نسائية لدعم النساء في القرى من خلال التعاونيات الزراعية، المشاريع الصغيرة، والتدريب المهني، حيث استطاعت بعض النساء إنشاء مصادر دخل مستقلة، مما أعطاهن قوة أكبر داخل أسرهن ومجتمعاتهن.
تقول سليم حجازي إن “هذه الحركات النسوية في الهامش قد لا تكون مرئية مثل الحركات النسوية في المدن، لكنها أكثر تأثيرًا لأنها تغير حياة النساء من الداخل، وتوفر لهن أدوات عملية لمواجهة التهميش الاقتصادي والاجتماعي.”
كما أن بعض النساء بدأن في تحدي القوانين التقليدية التي تحرمهن من حقوقهن، حيث خاضت بعضهن معارك قانونية للحصول على الميراث، أو للحصول على حقهن في العمل بدون إذن العائلة، مما يعكس تحولًا تدريجيًا في الوعي النسوي في هذه المجتمعات.
هل يمكن أن تحقق الحركات النسوية في الهامش تغييرًا حقيقيًا؟
على الرغم من النجاحات التي حققتها بعض المبادرات، لا يزال الطريق طويلًا أمام تحقيق مساواة حقيقية للنساء في المناطق الريفية والمهمشة. فالدولة والمجتمع المدني بحاجة إلى دعم هذه الحركات من خلال:
تحسين البنية التحتية لتوفير التعليم والرعاية الصحية للنساء في القرى والمناطق النائية.
سن قوانين تحمي العاملات في القطاعات غير الرسمية، وتضمن لهن الحد الأدنى من الأجور والتأمين الصحي.
توفير دعم اقتصادي للمشاريع النسائية الصغيرة، بحيث لا تكون النساء معتمدات اقتصاديًا على الرجال.
تغيير الصورة النمطية في الإعلام، بحيث يتم تسليط الضوء على نضال النساء في المناطق المهمشة بدلًا من حصر النقاش النسوي في المدن الكبرى.
بين القمع الاجتماعي، والتهميش الاقتصادي، وضعف الدعم الحكومي، لا تزال النساء في المناطق الريفية والمهمشة يواجهن تحديات مضاعفة في نضالهن من أجل المساواة. لكن رغم ذلك، فإن حركات النساء في هذه المناطق بدأت في إحداث تغييرات جوهرية على مستوى المجتمعات المحلية، مما يعكس قدرة المرأة العربية على مقاومة التهميش، حتى في أكثر البيئات قسوة.
ويبقى السؤال: هل ستتمكن هذه الحركات من تحقيق تأثير على المستوى الوطني، أم أن النساء في الهامش سيبقين في معركتهن وحدهن دون دعم كافٍ من الدولة والمجتمع؟