Spread the love

في واحدة من أطول وأشد الحصارات دموية في التاريخ الحديث، واجهت مدينة لينينغراد (سانت بطرسبرغ حالياً) حصاراً قاسياً من قبل القوات النازية بين عامي 1941 و1944، استمر لمدة 872 يوماً. خلال هذه المدة، تعرض سكان المدينة لمجاعة وحشية، حيث اضطر الكثيرون إلى أكل الحيوانات الأليفة، والجلد، وحتى ورق الجدران للبقاء على قيد الحياة. لكن رغم كل ذلك، لم تستسلم المدينة، وأصبحت رمزاً للصمود السوفييتي في وجه آلة الحرب الألمانية.

كيف تمكن سكان لينينغراد من البقاء على قيد الحياة وسط هذه الظروف القاسية؟ ولماذا أصر هتلر على تدمير المدينة بدلاً من احتلالها؟ وهل كان يمكن للحصار أن ينتهي بشكل مختلف لو لم ترتكب القيادة السوفييتية أخطاء قاتلة؟

مع بداية الحرب العالمية الثانية، شن أدولف هتلر عملية بارباروسا، التي استهدفت الاتحاد السوفييتي في يونيو 1941. رغم تحذيرات الاستخبارات السوفييتية، لم يكن جوزيف ستالين مستعداً للهجوم، مما سمح للقوات الألمانية بالتقدم السريع نحو المدن السوفييتية الكبرى، ومن بينها لينينغراد.

بحلول سبتمبر 1941، وصلت القوات النازية إلى مشارف المدينة، وتمكنت من تطويقها بالكامل بمساعدة القوات الفنلندية من الشمال، مما جعل لينينغراد محاصرة تماماً دون أي إمدادات برية. لم يكن هدف هتلر احتلال المدينة، بل تدميرها بالكامل عبر القصف والتجويع، حيث أمر بمنع أي مساعدات إنسانية من الوصول إليها، قائلاً: “يجب أن تختفي لينينغراد من على وجه الأرض”.

الجوع والشتاء القاتل: كيف تحول الحصار إلى كابوس؟

مع بداية الحصار، بدأ مخزون الطعام في المدينة بالنفاد بسرعة. لم يكن هناك إمدادات كافية، حيث لم تكن الحكومة السوفييتية قد استعدت لحصار طويل الأمد. بحلول الشتاء الأول، أصبحت المدينة في حالة كارثية، حيث انخفضت الحصص الغذائية إلى 125 غراماً من الخبز يومياً لكل شخص، وكان هذا الخبز نفسه مصنوعاً جزئياً من نشارة الخشب لزيادة حجمه.

مع استمرار الحصار، بدأ السكان يأكلون القطط، والكلاب، وحتى الجثث البشرية. في أسوأ فترات المجاعة، اضطرت الشرطة إلى التعامل مع حالات أكل لحوم البشر، حيث بدأ بعض السكان في التهام الجثث للبقاء على قيد الحياة.

الطريق الوحيد للحياة: هل كان “طريق الجليد” كافياً لإنقاذ المدينة؟

رغم الحصار التام، تمكن السوفييت من إيجاد طريقة لإيصال الإمدادات عبر بحيرة لادوجا المتجمدة، التي أصبحت تعرف باسم “طريق الحياة”. خلال الشتاء، تم استخدام شاحنات لنقل الطعام والذخيرة عبر الجليد، بينما كانت الطائرات الألمانية تحاول قصفها لمنع وصول الإمدادات.

لكن الطريق لم يكن كافياً لإنقاذ جميع السكان، حيث لم تصل الكميات الضرورية، وظل عشرات الآلاف يموتون جوعاً يومياً. ومع ذلك، ساعد هذا الطريق في إبقاء المقاومة مستمرة، ومنع المدينة من السقوط الكامل.

القصف المستمر: كيف واجه السكان حرب الأعصاب؟

لم يكن الجوع هو العدو الوحيد، فقد تعرضت لينينغراد لقصف مكثف من المدفعية والطائرات النازية يومياً. المستشفيات، المدارس، وحتى المخابز كانت أهدافاً للهجمات، مما جعل الحياة في المدينة شبه مستحيلة. رغم ذلك، لم تتوقف الحياة تماماً، حيث استمرت المصانع في إنتاج الأسلحة، وظل الفنانون والكتاب ينظمون العروض المسرحية والحفلات الموسيقية كوسيلة لمقاومة الإحباط النفسي.

مع تقدم الجيش الأحمر في عام 1943، بدأت القوات السوفييتية بشن هجمات مضادة لفك الحصار. في يناير 1944، وبعد أكثر من عامين من المعاناة، تمكن الجيش الأحمر من كسر الحصار نهائياً وطرد القوات الألمانية. عندما دخل الجنود السوفييت إلى المدينة، وجدوا مشاهد مروعة من الجثث المتناثرة في الشوارع، والسكان الهياكل العظمية الذين بالكاد يستطيعون المشي بسبب الجوع.

هل كان يمكن تجنب هذه المأساة؟

يرى بعض المؤرخين أن القيادة السوفييتية ارتكبت أخطاء فادحة ساهمت في تفاقم المعاناة. كان يمكن إجلاء المزيد من المدنيين قبل الحصار، لكن ستالين رفض ذلك خوفاً من أن يبدو كضعف أمام الألمان. كما أن سوء التخطيط اللوجستي جعل الحصار أكثر فتكاً، حيث لم يتم توفير احتياطات غذائية كافية في المدينة قبل بدء الهجوم النازي.

رغم المأساة، أصبح حصار لينينغراد رمزاً للصمود السوفييتي، وساهم في تعزيز الشعور القومي لدى الروس. كما أن التجربة القاسية التي عاشها سكان المدينة ظلت حاضرة في الذاكرة الجماعية، حيث لا تزال لينينغراد واحدة من أكثر المحطات الدموية في الحرب العالمية الثانية.

لكن يبقى السؤال الأهم: هل كان من الممكن أن تنتهي هذه الكارثة بطريقة مختلفة لو كانت القيادة أكثر استعداداً؟ أم أن مصير المدينة كان محتوماً منذ اللحظة التي بدأت فيها القوات الألمانية بالتقدم نحوها؟

error: Content is protected !!