بين عامي 1941 و1944، تعرضت مدينة لينينغراد (سانت بطرسبرغ حالياً) لحصار وحشي استمر 872 يوماً، نفذته القوات النازية الألمانية في واحدة من أكثر الفصول دموية في الحرب العالمية الثانية. مات خلاله أكثر من مليون مدني بسبب الجوع، القصف، والبرد القارس، في إحدى أطول وأشد الحصارات دماراً في التاريخ الحديث.
لكن هل كان هذا الحصار مجرد تكتيك عسكري ألماني، أم أنه كان محاولة متعمدة لإبادة المدينة وسكانها بالكامل؟ ولماذا فشل الجيش السوفيتي في كسره لفترة طويلة، رغم ضخامة قواته؟
الخلفية: لماذا كانت لينينغراد هدفاً استراتيجياً لألمانيا؟
في يونيو 1941، أطلق هتلر عملية بارباروسا، أكبر غزو عسكري في التاريخ، بهدف احتلال الاتحاد السوفيتي وإسقاط النظام الشيوعي. كان لدى القيادة النازية خطة ثلاثية المحاور، حيث استهدفت الجيوش الألمانية:
موسكو (العاصمة السياسية والإدارية).
لينينغراد (المركز الصناعي والثقافي).
القوقاز (مصادر النفط الحيوية).
كانت لينينغراد (الواقعة شمال غرب روسيا) مدينة صناعية ضخمة ومركزاً لإنتاج الأسلحة، كما أنها كانت مهد الثورة البلشفية عام 1917، مما جعلها هدفاً رمزياً وسياسياً لهتلر.
في أغسطس 1941، بدأت القوات الألمانية والفنلندية تقدمها نحو المدينة، وتمكنت من عزلها تماماً بحلول سبتمبر، ليبدأ أحد أطول الحصارات في التاريخ الحديث.
بداية الحصار: استراتيجية التجويع بدل الاحتلال
على عكس التكتيكات العسكرية التقليدية، لم تحاول ألمانيا اقتحام لينينغراد بالقوة، بل اعتمدت على استراتيجية الحصار الشامل، حيث قامت:
بتطويق المدينة من جميع الجهات، مما قطع جميع طرق الإمداد البرية.
بقصف مخازن الطعام والمصانع، لمنع أي محاولات للاكتفاء الذاتي.
بقصف المدنيين بشكل متعمد لخلق حالة من الفوضى والرعب.
كان الهدف الأساسي تجويع السكان حتى الموت، كما جاء في خطة هتلر، التي نصت على أن لينينغراد يجب أن تُزال من الوجود دون قبول أي استسلام.
الحياة داخل المدينة: الجوع، البرد، والموت في كل مكان
مع مرور الأشهر، بدأت مخزونات الطعام تنفد، واضطر السكان إلى تناول أي شيء للبقاء على قيد الحياة، حيث لجأوا إلى:
أكل نشارة الخشب المغلية مع الماء لصنع حساء مزيف.
صيد القطط والكلاب والغربان للحصول على أي مصدر للبروتين.
استهلاك الغراء والجلد لاستخراج أي عناصر غذائية.
حالات من أكل لحوم البشر سُجلت في بعض المناطق بسبب الجوع الشديد.
إضافة إلى الجوع، واجه السكان شتاءً قارساً بدرجات حرارة تصل إلى -40 درجة مئوية، مما جعل الكثيرين يموتون متجمدين في شوارع المدينة.
طريق الحياة: كيف أنقذ “طريق الجليد” مئات الآلاف؟
مع استمرار الحصار، حاول الجيش السوفيتي إيجاد طريقة لإيصال الطعام إلى المدينة. كان الحل الوحيد هو بحيرة لادوغا المجمدة، التي كانت المنفذ الوحيد للمدينة.
في شتاء 1941-1942، تم إنشاء طريق جليدي خطير عبر البحيرة، أطلق عليه اسم “طريق الحياة”، حيث تم:
نقل الإمدادات الغذائية عبر شاحنات على الجليد، رغم القصف الألماني المستمر.
إجلاء مئات الآلاف من المدنيين، خاصة الأطفال والنساء.
استمرار الطريق في العمل لثلاثة فصول شتاء متتالية، رغم المخاطر الهائلة.
ورغم ذلك، لم يكن الطعام كافياً لإنقاذ الجميع، واستمر آلاف الأشخاص يموتون يومياً بسبب الجوع.
نهاية الحصار: لماذا استغرق كسره كل هذا الوقت؟
بحلول عام 1943، بدأ الجيش الأحمر هجوماً مضاداً واسع النطاق، لكن القوات الألمانية والفنلندية كانت متحصنة بشكل قوي، مما جعل عملية فك الحصار تستغرق وقتاً طويلاً.
في يناير 1944، وبعد أكثر من 872 يوماً من الحصار، تمكن الجيش السوفيتي أخيراً من تحرير لينينغراد، لكن المدينة كانت قد دفعت ثمناً باهظاً:
قُتل 1.2 مليون شخص على الأقل، معظمهم من الجوع.
أصبحت المدينة مدمرة بالكامل بسبب القصف المستمر.
استغرق الأمر سنوات لإعادة إعمار لينينغراد واستعادة الحياة الطبيعية.
هل كان الحصار جريمة حرب أم تكتيك عسكري؟
حتى اليوم، يعتبر حصار لينينغراد واحداً من أكثر الفصول دموية في الحرب العالمية الثانية، ويثير جدلاً تاريخياً حول ما إذا كان مجرد تكتيك عسكري أم إبادة جماعية متعمدة.
يرى بعض المؤرخين أن ألمانيا تعمدت إبادة سكان المدينة عبر التجويع والقصف المستمر، مما يجعله جريمة حرب.
بينما يرى آخرون أن الحصار كان استراتيجية عسكرية تهدف إلى شل القوة السوفيتية، رغم قسوته.
رغم الدمار الهائل، بقيت لينينغراد رمزاً للصمود، وأصبح سكانها مثالاً على قدرة البشر على التحمل في أصعب الظروف. كما أن فشل الألمان في السيطرة على المدينة كان نقطة تحول في الحرب، حيث بدأ الجيش الأحمر في شن هجمات مضادة قوية أدت لاحقاً إلى سقوط برلين عام 1945.
لكن يبقى السؤال: هل كان بالإمكان تجنب هذه المأساة لو تدخل الحلفاء لدعم المدينة بشكل أكبر؟ أم أن الحصار كان قدراً لا مفر منه في حرب عالمية لا تعرف الرحمة؟