Spread the love

في ظل التحولات الرقمية المتسارعة، أصبح الإنترنت ساحة جديدة للنضال النسوي، حيث وفّر للنساء منصة للتعبير، والتواصل، والمطالبة بحقوقهن في مجتمعات تعاني من قيود اجتماعية وسياسية. لكن، مع هذا الانفتاح، ظهر شكل جديد من العنف الموجه ضد النساء، يتمثل في التحرش الإلكتروني، التهديدات الرقمية، والتشهير، مما جعل الفضاء الرقمي مزدوج الوجه: أداة للتحرر، وساحة جديدة للاضطهاد. فكيف يؤثر الإنترنت على قضايا حقوق المرأة؟ وهل يمثل فرصة حقيقية لتمكين النساء، أم أنه يعيد إنتاج التمييز بأشكال جديدة؟

ساهم الإنترنت في تعزيز الحركات النسوية حول العالم، حيث باتت وسائل التواصل الاجتماعي منصة للحملات التي تناهض العنف ضد المرأة، مثل حملة #MeToo العالمية، التي ألهمت موجات احتجاجات ضد التحرش الجنسي في العديد من الدول، بما في ذلك بعض الدول العربية مثل مصر ولبنان، حيث شجعت النساء على كسر حاجز الصمت حول العنف القائم على النوع الاجتماعي.

تؤكد الباحثة التونسية ليلى خضر، المتخصصة في الإعلام الرقمي والنسوية، أن “الفضاء الرقمي مكّن النساء من تجاوز القيود التقليدية التي فرضها المجتمع على أصواتهن. الإنترنت منح المرأة فرصة لخلق مساحة تعبر فيها عن قضاياها دون الحاجة إلى المرور عبر مؤسسات يسيطر عليها الرجال.”

وتضيف أن “التكنولوجيا فتحت بابًا واسعًا أمام النساء في العالم العربي للتواصل مع تجارب مماثلة، سواء في قضايا التحرش، أو العنف الأسري، أو التمييز في أماكن العمل، مما خلق بيئة تضامنية غير مسبوقة.”

وفي بعض الدول العربية، مثل تونس والمغرب، ساهمت الحملات الإلكترونية في تغيير قوانين تحمي النساء من العنف، كما حصل مع إلغاء المادة 308 من القانون الأردني، التي كانت تسمح للمغتصب بالإفلات من العقوبة إذا تزوج الضحية، بعد ضغوط شعبية وحملات على الإنترنت.

الجانب المظلم: كيف أصبح الفضاء الرقمي ساحة للعنف ضد النساء؟

رغم هذه الإيجابيات، لم يكن الإنترنت بيئة آمنة تمامًا للنساء، بل تحول في كثير من الأحيان إلى ساحة جديدة للعنف القائم على النوع الاجتماعي. التحرش الإلكتروني، التهديدات، نشر الصور الخاصة دون إذن، والملاحقة الرقمية باتت كلها أدوات لقمع النساء وإسكات أصواتهن.

في دراسة أجراها المركز العربي لتطوير الإعلام الاجتماعي (حملة) عام 2022، تبيّن أن 74% من النساء في الدول العربية تعرضن لشكل من أشكال العنف الرقمي، سواء عبر التعليقات المسيئة، أو التهديدات، أو الابتزاز الإلكتروني.

يشرح الباحث المصري حسام عبد الحميد، المتخصص في الأمن الرقمي، أن “التكنولوجيا لم تغير فقط الطريقة التي نعبر بها عن أنفسنا، بل وفرت أيضًا أدوات جديدة للقمع. اليوم، يمكن لأي شخص أن يلاحق امرأة رقمياً، أو يخترق حساباتها، أو يبتزها باستخدام صورها الخاصة، وهو ما أدى إلى تفشي ما يسمى بـ’العنف السيبراني’ ضد النساء.”

ويضيف أن “القوانين في معظم الدول العربية لم تواكب هذه التغيرات، فلا تزال التشريعات المتعلقة بالعنف الإلكتروني غامضة أو غير كافية لحماية النساء من الابتزاز الرقمي والتحرش الإلكتروني.”

التحرش الرقمي: من المسؤول عن حمايتهن؟

واحدة من أبرز المشاكل التي تواجه النساء في العالم الرقمي هي ضعف الحماية القانونية من العنف السيبراني. في كثير من الدول العربية، لا توجد قوانين واضحة تجرّم التحرش الإلكتروني بوضوح، بل يتم التعامل معه بصفته “مخالفة عامة”، مما يجعل من الصعب ملاحقة الجناة قانونيًا.

في السعودية، تم تجريم التحرش الإلكتروني ضمن قانون مكافحة الجرائم المعلوماتية، ولكن في دول أخرى مثل لبنان والعراق، لا تزال القوانين تفتقر إلى تشريعات محددة تحمي النساء من العنف الإلكتروني.

توضح ليلى خضر أن “غياب القوانين الرادعة يشجع على استمرار العنف الرقمي ضد النساء. فعندما تُترك المرأة وحدها في مواجهة التهديدات الإلكترونية، يكون الخيار الوحيد أمامها هو الانسحاب من الفضاء الرقمي، مما يعني أن الرقابة المجتمعية الذكورية تنتصر في النهاية.”

إلى جانب التحرش الإلكتروني، تستخدم بعض الدول التكنولوجيا لمراقبة الناشطات النسويات، حيث تعرضت العديد من المدافعات عن حقوق المرأة للاعتقال بسبب منشوراتهن على الإنترنت، كما حدث مع ناشطات سعوديات طالبن بحقوق المرأة في القيادة والعمل.

في مصر والمغرب، تم استخدام “الجرائم الإلكترونية” كذريعة لاستهداف النساء اللواتي يعبرن عن آرائهن بحرية على الإنترنت، حيث تم اعتقال بعضهن بتهم “الإخلال بالقيم الأسرية”، مما يعكس كيف يمكن للفضاء الرقمي أن يصبح أيضًا أداة للقمع.

ما الحل؟ هل يمكن للإنترنت أن يصبح مساحة آمنة؟

إذا كان الإنترنت قد مكّن النساء من التعبير عن أنفسهن، فإنه في الوقت ذاته كشف عن التحديات الجديدة التي تواجههن في ظل العنف السيبراني والمراقبة الرقمية. لكن هناك حلولًا يمكن أن تساهم في جعل الفضاء الرقمي أكثر أمانًا:

تحديث القوانين في الدول العربية لمكافحة العنف الإلكتروني بوضوح، وتجريم التحرش الرقمي والابتزاز الإلكتروني بعقوبات رادعة.
تعزيز الوعي الرقمي بين النساء، من خلال تدريبهن على الأمن السيبراني، وكيفية حماية بياناتهن من الاختراق والابتزاز.
مساءلة شركات التكنولوجيا مثل فيسبوك وتويتر على سياساتها في مكافحة التحرش الإلكتروني، حيث لا تزال هذه المنصات توفر مساحة للتحريض ضد النساء دون رقابة كافية.

الفضاء الرقمي هو ساحة صراع جديدة بين قوى التحرر وقوى التمييز الجندري. فبينما مكّن النساء من كسر حاجز الصمت والتواصل مع حركات نسوية عالمية، إلا أنه في الوقت نفسه أصبح بيئة جديدة للعنف الممنهج ضدهن. الحل لا يكمن في الانسحاب من هذه المساحة، بل في تعزيز الحماية القانونية، وزيادة الوعي بآليات الأمان الرقمي، والاستمرار في المطالبة بحق النساء في فضاء رقمي أكثر أمانًا وإنصافًا.

ويبقى السؤال: هل ستتمكن النساء من جعل الإنترنت أداة للتحرر، أم أن العنف الرقمي سيحوله إلى قيد جديد يضاف إلى القيود التي تحاصرهن في الحياة اليومية؟

error: Content is protected !!