منذ أقدم العصور، شكلت الأخلاق حجر الزاوية في الفلسفة والدين والمجتمع. لكن الخلاف ظل قائماً: هل هناك مبادئ أخلاقية مطلقة تنطبق على الجميع في كل زمان ومكان؟ أم أن الأخلاق نسبية، تتغير وفقاً للثقافة والتقاليد والسياقات المختلفة؟ هذا السؤال لم يكن مجرد نقاش فلسفي، بل كان محوراً أساسياً في بناء المجتمعات، إذ تتوقف عليه مفاهيم العدالة والحقوق وحتى الشرعية السياسية.
يذهب أنصار الأخلاق المطلقة إلى أن القيم الأخلاقية مثل العدل، والصدق، والرحمة، لها وجود موضوعي مستقل عن الأفراد والمجتمعات، ويمكن قياسها بمعايير ثابتة. أما أنصار الأخلاق النسبية، فيرون أن القيم الأخلاقية ليست سوى نتاج اجتماعي وثقافي، وأن ما يعد فضيلة في مجتمع معين قد يكون رذيلة في مجتمع آخر. هذا الصراع الفكري أخذ أبعاداً جديدة في العصر الحديث، حيث باتت التحديات التكنولوجية والثقافية والعولمة تضيف تعقيدات غير مسبوقة لهذا النقاش.
الأخلاق المطلقة: بين الدين والفلسفة
ظهرت فكرة الأخلاق المطلقة في الفلسفات القديمة والدينية، حيث رأت معظم الأديان أن القيم الأخلاقية مستمدة من إرادة إلهية، وأن هناك مبادئ لا يمكن تجاوزها مهما تغيرت الظروف. في الديانات الإبراهيمية، نجد أن هناك قيماً مثل تحريم القتل والسرقة والظلم، تعتبر مطلقة وغير قابلة للمساومة، حيث يُنظر إليها على أنها جزء من نظام كوني ثابت.
في الفلسفة، دافع كانط عن فكرة أن هناك “واجبات أخلاقية” مطلقة لا تخضع للتغيرات الثقافية أو الاجتماعية. في كتابه “أسس ميتافيزيقا الأخلاق”، طرح مفهوم “الأمر المطلق”، الذي ينص على أن الفعل الأخلاقي يجب أن يكون صالحاً ليصبح قانوناً عالمياً، أي أنه لا يمكن أن يكون صحيحاً لشخص وخاطئاً لآخر بناءً على الظروف. وفقاً لهذه الرؤية، فإن الصدق، على سبيل المثال، ليس مجرد قيمة اجتماعية، بل مبدأ أخلاقي ملزم بغض النظر عن العواقب.
لكن هذا التصور لم يكن محل إجماع، إذ اعترض عليه بعض الفلاسفة، معتبرين أن الواقع أكثر تعقيداً من أن يتم حصره في مبادئ مطلقة. على سبيل المثال، هل الكذب يكون دائماً خاطئاً، حتى لو كان لإنقاذ حياة إنسان؟ هذا السؤال دفع بالفلاسفة إلى إعادة التفكير في مدى صلابة الأخلاق المطلقة.
الأخلاق النسبية: حين تكون القيم خاضعة للثقافة والتاريخ
على الجانب الآخر، يرى أنصار الأخلاق النسبية أن القيم الأخلاقية تتشكل داخل المجتمعات، وتتغير عبر التاريخ. الفيلسوف ديفيد هيوم كان من أوائل من رفضوا فكرة الأخلاق المطلقة، قائلاً إن الأخلاق ليست سوى انعكاس لمشاعرنا ورغباتنا، ولا توجد هناك حقيقة أخلاقية مستقلة عن الإنسان.
يستشهد المدافعون عن الأخلاق النسبية بأمثلة عديدة على اختلاف القيم بين الثقافات. ما يعد مقبولاً في مجتمع ما قد يكون مستهجناً في آخر. على سبيل المثال، بعض المجتمعات ترى في تعدد الزوجات أمراً أخلاقياً وطبيعياً، بينما تعتبره مجتمعات أخرى غير مقبول أخلاقياً. كذلك، فإن عقوبة الإعدام تُعتبر إجراءً عادلاً في بعض الثقافات، بينما تُعدّ جريمة في ثقافات أخرى.
يرى الدكتور أيمن الصفدي، أستاذ الفلسفة بجامعة الجزائر، أن “الحديث عن أخلاق مطلقة يتجاهل الطبيعة الديناميكية للمجتمعات. لا يمكن أن نقول إن هناك مبدأ واحداً ثابتاً يصلح لكل الأزمنة، لأن القيم تتغير تبعاً للتطورات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية”. لكنه في الوقت ذاته لا ينكر وجود قيم راسخة تتكرر في معظم المجتمعات، مشيراً إلى أن “الاحترام والعدل، رغم اختلاف تفسيرهما، يوجدان في كل الحضارات، مما قد يشير إلى وجود أسس أخلاقية عالمية، لكن ليست بالضرورة مطلقة”.
في المقابل، يرى الدكتور جواد الكرمي، الباحث في الأخلاق التطبيقية بجامعة بيروت، أن “فكرة النسبية الأخلاقية قد تؤدي إلى فوضى قيمية، لأن المجتمعات إذا فقدت أي معايير ثابتة، فقد يصبح كل شيء مباحاً. نحن بحاجة إلى إطار مشترك على الأقل، وإلا فسيصبح التبرير الأخلاقي وسيلة لتبرير أي عمل، مهما كان شنيعاً”.
التكنولوجيا والتحديات الحديثة للأخلاق
مع تطور العالم الرقمي والتقدم العلمي، ظهرت تساؤلات جديدة تعيد صياغة الجدل بين الأخلاق المطلقة والنسبية. الذكاء الاصطناعي، على سبيل المثال، أصبح يطرح تحديات أخلاقية غير مسبوقة. هل يمكن برمجة الذكاء الاصطناعي ليكون أخلاقياً؟ وإذا كان كذلك، فما هي المبادئ التي يجب أن تحكمه؟ هل يجب أن تتبع الآلة أخلاقاً مطلقة، أم أن عليها التكيف مع ثقافات مختلفة؟
هناك أيضاً قضايا مثل حقوق الإنسان، التي تدّعي أنها مبادئ عالمية، لكنها في بعض الأحيان تواجه رفضاً في مجتمعات ترى فيها تدخلاً خارجياً في ثقافتها. هل يمكن اعتبار حقوق الإنسان قيماً مطلقة، أم أنها مجرد انعكاس للفكر الغربي؟
يبدو أن الجدل بين الأخلاق المطلقة والنسبية سيبقى مستمراً، لكن البعض يحاول إيجاد طريق ثالث يجمع بين الاتجاهين. بعض الفلاسفة يقترحون أن هناك “حداً أدنى أخلاقياً” يجب أن يكون عالمياً، في حين يمكن ترك المساحة للبقية لتكون خاضعة للتغير الثقافي. هذا الطرح يسمح بوجود قيم أساسية مثل منع التعذيب والعبودية، لكنه يترك مجالاً لاختلاف المجتمعات في تفاصيل أخلاقية أخرى.
رغم تعدد النظريات، لا تزال الأسئلة قائمة: هل يمكن لمجتمع إنساني أن يستقر بدون أخلاق مطلقة؟ أم أن محاولة فرض قيم أخلاقية ثابتة على الجميع ليست سوى وهم؟ ربما يكون الجواب أكثر تعقيداً مما نتصور، وربما يكون سؤال الأخلاق في حد ذاته مجرد انعكاس للعقل البشري الذي يبحث عن النظام وسط فوضى الواقع.