قبل أسبوع من تولي الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب منصبه، تتوجه الأنظار إلى جنيف، حيث تستعد إيران وفرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة لعقد جولة مشاورات جديدة حول البرنامج النووي الإيراني. تأتي هذه المحادثات في ظل تصاعد المخاوف الغربية من تسارع خطوات طهران نحو تخصيب اليورانيوم، ما يهدد بتقويض الاتفاق النووي الذي لا يزال في حالة تعثر سياسي وتقني منذ انسحاب الولايات المتحدة منه عام 2018.
في حين تصف الدول الأوروبية هذه اللقاءات بأنها مشاورات تقنية وليست مفاوضات رسمية، ترى إيران أنها مجرد حوار روتيني لا يرقى إلى مستوى محادثات حاسمة. لكن توقيت الاجتماع يكشف عن محاولة أوروبية أخيرة لتقييد البرنامج النووي الإيراني قبل أن تتبنى إدارة ترامب موقفًا أكثر تشددًا قد يؤدي إلى انهيار كامل للمسار الدبلوماسي.
تزداد التوترات في ظل التقارير الصادرة عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والتي أكدت أن إيران بدأت مؤخرًا تشغيل أجهزة طرد مركزي متطورة في منشأة فوردو، مما يرفع نسبة تخصيب اليورانيوم إلى 60%، وهو مستوى يقربها بشكل خطير من القدرة على تصنيع سلاح نووي. هذه التطورات دفعت فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة إلى إصدار تحذيرات شديدة اللهجة، حيث وجهت الدول الثلاث رسالة إلى مجلس الأمن الدولي في السادس من ديسمبر، أعربت فيها عن “قلقها العميق” من التوجهات الإيرانية، داعية إلى إنهاء ما وصفته بـ “التصعيد النووي الخطير”.
المحلل السياسي الإيراني، صادق أحمدي، يعتبر أن هذه الخطوات تمثل تحولًا استراتيجيًا في طريقة تعامل إيران مع الملف النووي، مشيرًا إلى أن “طهران تسعى إلى استخدام التقدم النووي كورقة ضغط في أي مفاوضات مستقبلية، خاصة بعد أن أدركت أن استراتيجيتها السابقة لم تحقق مكاسب سياسية أو اقتصادية”.
ترويكا أوروبية تحت الضغط: هل تلجأ باريس وبرلين ولندن إلى العقوبات؟
مع تزايد التصعيد الإيراني، بدأت العواصم الأوروبية تبحث في خيارات أكثر صرامة، ومنها إمكانية إعادة فرض العقوبات الدولية على إيران. هذا التحرك قد يتم عبر تفعيل آلية “سناب باك” المنصوص عليها في الاتفاق النووي لعام 2015، والتي تتيح لأي طرف في الاتفاق إعادة فرض عقوبات الأمم المتحدة على طهران في حال انتهاكها للالتزامات النووية.
لكن هذه الخطوة تظل محفوفة بالمخاطر الدبلوماسية، خاصة في ظل مساعي الاتحاد الأوروبي للحفاظ على ما تبقى من الاتفاق ومحاولة إبقاء إيران داخل الإطار الدبلوماسي. المسؤول السابق في الخارجية الفرنسية بيير لوران يرى أن تصعيد العقوبات قد يؤدي إلى نتائج عكسية، حيث قد يدفع إيران إلى الانسحاب الكامل من الاتفاق أو حتى تسريع خطواتها نحو إنتاج سلاح نووي، ما قد يخلق أزمة جديدة في الشرق الأوسط.
في هذا السياق، يشير الباحث في الشؤون الدولية، أدهم طليبي، إلى أن أوروبا تحاول إبقاء قنوات الحوار مفتوحة مع طهران، لكنها تواجه معضلة حقيقية، فـ”التراخي قد يشجع إيران على التمادي، بينما تشديد الإجراءات قد يدفعها إلى تبني مواقف أكثر راديكالية”.
من المتوقع أن تكون الإدارة الأمريكية الجديدة عاملًا حاسمًا في تحديد مستقبل المسار الدبلوماسي مع إيران. دونالد ترامب، الذي يستعد لدخول البيت الأبيض، كان قد تعهد خلال حملته الانتخابية بموقف أكثر صرامة تجاه طهران، مما قد يعني انسحابًا كليًا من أي مساعٍ دبلوماسية وإعادة فرض عقوبات أوسع نطاقًا.
المحلل السياسي الإيراني، صادق أحمدي، يرى أن “إيران تدرك أن ما تبقى من فترة بايدن قد يكون فرصتها الأخيرة للتفاوض مع الغرب”، مضيفًا أن “المحادثات الجارية في جنيف لن تكون كافية لوقف التصعيد، لكنها قد توفر أساسًا لمفاوضات أوسع في المستقبل، إذا قررت طهران تعليق بعض أنشطتها النووية”.
السيناريوهات المتوقعة: تصعيد أم احتواء؟
مع استمرار الغموض حول نتائج محادثات جنيف، يبدو أن السيناريوهات المحتملة تندرج ضمن ثلاثة مسارات رئيسية، فإما أن إيران ستقدم تنازلات تقنية محدودة، مثل تعليق بعض أنشطة التخصيب أو الحد من تشغيل أجهزة الطرد المركزي المتطورة، في مقابل تخفيف بعض العقوبات الأوروبية. أو يكون هناك استمرار للتصعيد النووي الإيراني، مما سيدفع الدول الأوروبية إلى مزيد من الضغوط الدبلوماسية، وربما إعادة فرض العقوبات الدولية، أو أن التدخل الأمريكي القوي بعد تولي ترامب منصبه، سيؤدي إلى انسداد تام في المسار الدبلوماسي وتصاعد التوترات إلى مستويات غير مسبوقة.
تأتي محادثات جنيف وسط أزمة ثقة متزايدة بين إيران والغرب، حيث بات واضحًا أن كل طرف يسعى إلى تحقيق أقصى مكاسب ممكنة قبل أن يتغير المشهد السياسي مع دخول إدارة ترامب إلى البيت الأبيض. ومع غياب ضمانات واضحة لأي اتفاق مستقبلي، تظل التساؤلات قائمة حول مدى قدرة الدبلوماسية على تجنب مواجهة جديدة قد تضع المنطقة والعالم أمام أزمة نووية غير محسوبة العواقب.