مع اقتراب السعودية من منتصف الإطار الزمني لرؤية 2030، تتزايد التساؤلات حول مدى نجاحها في تحقيق أهدافها الطموحة لتنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على النفط كمصدر رئيسي للإيرادات. وفي حين أكد وزير المالية السعودي محمد الجدعان أن رؤية المملكة تسير “على المسار الصحيح” رغم التحديات المرتبطة بالموارد البشرية والقدرة على التنفيذ، إلا أن الواقع يكشف عن صورة أكثر تعقيداً، حيث اضطرت الحكومة إلى إعادة تقييم بعض المشاريع الكبرى وتأجيل تنفيذها، وذلك في ظل تراجع عائدات النفط العالمية، وزيادة الضغوط المالية، وتحديات جذب الاستثمار الأجنبي المباشر.
ورغم تأكيد الحكومة أن 87% من أهداف الرؤية قد تحققت أو في طريقها للتحقيق، فإن مراجعات حديثة كشفت أن بعض المشاريع العملاقة، مثل مشروع نيوم، قد تعرضت لتعديلات من حيث الحجم والسكان المستهدفين، وسط مخاوف حول الجدوى الاقتصادية لهذه المشروعات مقارنة بالاستثمارات الضخمة المخصصة لها.
نيوم بين الطموح والواقع: هل يمكن أن تتحول إلى مركز عالمي؟
يُعتبر مشروع نيوم واحداً من أكثر المشاريع الطموحة في رؤية 2030، حيث تسعى المملكة إلى بناء مدينة ذكية تعتمد على التكنولوجيا الحديثة والاستدامة البيئية، وتستقطب استثمارات عالمية ضخمة. لكن، رغم التقدم في تطوير البنية التحتية، إلا أن تقارير متعددة أشارت إلى خفض الأهداف المتعلقة بحجم المدينة والسكان المستهدفين، وهو ما يعكس وجود تحديات مالية وتنفيذية قد تؤخر المشروع عن تحقيق أهدافه الأصلية في الإطار الزمني المحدد.
وفي هذا السياق، أكد ريان فايز، نائب الرئيس التنفيذي لشركة نيوم، أن المشروع تمكن خلال الـ 18 إلى 24 شهراً الماضية من تأمين التزامات استثمارية من القطاع الخاص تجاوزت 60 مليار ريال سعودي (16 مليار دولار)، إضافة إلى تمويل عبر الاستدانة بقيمة 30 مليار ريال (8 مليارات دولار). هذه الأرقام تُظهر أن المشروع يتمتع بدعم استثماري جيد، لكن التساؤلات تبقى قائمة حول مدى استدامة هذا التمويل، وما إذا كان القطاع الخاص قادراً على تحمل العبء المالي لهذا المشروع الضخم دون الاعتماد المفرط على التمويل الحكومي.
يعلق الخبير الاقتصادي أحمد السالمي على ذلك قائلاً: “نجاح نيوم لا يُقاس فقط بحجم الأموال التي يتم ضخها في المشروع، ولكن بمدى تحقيقه لعوائد اقتصادية حقيقية، وجذب شركات عالمية كبرى لإنشاء مقرات إقليمية فيه، وليس فقط بناء مدينة ذكية تعتمد على التمويل الحكومي والاقتراض”.
الاستثمار الأجنبي المباشر: طموحات تواجه الواقع
تسعى السعودية إلى جذب 100 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية المباشرة بحلول 2030، وهو ما يمثل 6% من الناتج المحلي الإجمالي. إلا أن البيانات تشير إلى أن تحقيق هذا الهدف لا يزال يمثل تحدياً كبيراً، خاصة أن الاستثمار الأجنبي المباشر رغم أنه يتخذ منحى تصاعدياً، إلا أنه لم يصل بعد إلى المستويات المستهدفة.
ويرى الخبير المالي فارس الدوسري أن تحقيق هذا المستوى من الاستثمارات الأجنبية يتطلب تحسين بيئة الأعمال، وتبسيط الإجراءات البيروقراطية، وتقديم مزيد من الحوافز الجاذبة للمستثمرين. ويضيف: “لا تزال بعض القطاعات غير جذابة للمستثمرين الأجانب بسبب التحديات التنظيمية، ومخاوف الاستقرار التشريعي، والحاجة إلى مزيد من الإصلاحات في سوق العمل”.
على الرغم من الجهود المبذولة لتنويع الاقتصاد، يظل النفط هو العمود الفقري للإيرادات الحكومية. ومع تراجع أسعار النفط عالميًا، واتفاقيات أوبك+ التي خفضت إنتاج النفط، تراجعت عائدات الحكومة السعودية، ما دفع المسؤولين إلى إعادة تقييم الأولويات المالية لبعض مشاريع رؤية 2030.
في هذا السياق، أشار الجدعان إلى أن الحكومة اضطرت إلى إعادة تحديد أولويات بعض المشاريع وتأجيل تنفيذ البعض الآخر، وذلك لضمان عدم تحميل الاقتصاد أعباءً مالية غير مستدامة.
ويرى الخبير الاقتصادي ماهر السعدي أن “السعودية تدرك أنها بحاجة إلى تحقيق التوازن بين الاستمرار في تنفيذ رؤية 2030، وبين تجنب المخاطر المالية المرتبطة بتقلبات أسعار النفط”. ويضيف: “خفض الإنتاج النفطي، وتراجع الإيرادات الحكومية، وارتفاع الإنفاق العام في بعض القطاعات، كلها عوامل تجعل الحكومة بحاجة إلى إعادة جدولة الإنفاق، والتركيز على المشاريع الأكثر جدوى اقتصادية بدلاً من تنفيذ جميع المشاريع المخطط لها في آنٍ واحد”.
الاقتصاد السعودي: بين الحاجة إلى الاستقرار والضغوط الخارجية
مع استمرار الأزمات الجيوسياسية، مثل الحرب في غزة، والضغوط الاقتصادية العالمية، تجد السعودية نفسها مضطرة إلى التكيف مع المتغيرات الدولية. وقد أشار الجدعان في وقت سابق إلى أن هذه “الصدمات” دفعت الحكومة إلى إعادة ترتيب أولوياتها، وهو ما يعني أن بعض المشاريع التي كانت تحظى بأولوية قبل سنوات قد يتم تأجيلها لصالح مشاريع أكثر إلحاحاً واستدامة.
ومن جهة أخرى، فإن السياسة الاقتصادية السعودية تسعى إلى تحقيق نمو اقتصادي مستدام من خلال التركيز على قطاعات جديدة مثل التكنولوجيا، والصناعات المتقدمة، والطاقة المتجددة، والسياحة. إلا أن تحقيق هذه الأهداف لا يزال يتطلب استثمارات ضخمة في البنية التحتية، وتحسين البيئة التشريعية، وجذب المزيد من الشركات العالمية.
مع دخول رؤية 2030 مرحلتها المتوسطة، يبدو أن السعودية أمام خيارين أساسيين، فإما الإسراع في تنفيذ المشاريع رغم التحديات المالية، وهو ما قد يؤدي إلى ضغوط مالية كبيرة على الاقتصاد. أو إعادة جدولة بعض المشاريع والتركيز على القطاعات ذات العوائد الاقتصادية الأعلى، لضمان تحقيق أكبر قدر من الاستدامة المالية دون المساس بالاستثمارات الأساسية.
ويرى المحلل المالي عبد الله النعيمي أن “نجاح رؤية 2030 لا يقاس فقط بالقدرة على تنفيذ المشاريع، بل بمدى تحقيق هذه المشاريع لعوائد اقتصادية مستدامة”.
ويبقى السؤال الأهم: هل تستطيع السعودية تحقيق التوازن بين طموحاتها الاقتصادية والواقع المالي العالمي؟ أم أن رؤية 2030 ستشهد مزيداً من التعديلات في السنوات المقبلة؟