لطالما كان الملف الفلسطيني محوراً في السياسة الدولية، إلا أن الأوضاع الراهنة، خاصة في ظل الحرب الإسرائيلية المدمرة على غزة، دفعت العديد من القوى الدولية إلى إعادة تموضع مواقفها تجاه القضية الفلسطينية. وفي هذا السياق، تحتضن موسكو مجدداً اجتماعاً للفصائل الفلسطينية، على أمل تحقيق مصالحة طال انتظارها بين الأطراف الفلسطينية المنقسمة منذ عام 2007.
لكن هذا الاجتماع يثير تساؤلات عديدة: ما الذي يدفع روسيا اليوم إلى لعب هذا الدور؟ وهل يمكن لموسكو أن تنجح حيث فشلت دول أخرى، مثل مصر والجزائر؟ أم أن هذا الاجتماع مجرد خطوة جديدة في إطار معركة النفوذ الروسي في الشرق الأوسط؟
لطالما حاولت روسيا الحفاظ على علاقة متوازنة مع جميع الأطراف الفلسطينية. فعلى عكس الولايات المتحدة، التي تتبنى سياسة دعم غير مشروط لإسرائيل، سعت موسكو إلى تقديم نفسها كقوة تدعم القضية الفلسطينية دون أن تخسر علاقاتها مع إسرائيل. وقد ظهر هذا الدور بوضوح منذ بداية التسعينيات، حيث شاركت روسيا في رعاية عملية السلام، لكن نفوذها بقي محدوداً بسبب الهيمنة الأمريكية على الملف.
توقيت المبادرة الروسية: أداة لكسر العزلة الدولية؟ التوقيت ليس اعتباطياً: تأتي هذه المحاولة الروسية في وقت تشهد فيه موسكو عزلة دولية بسبب الحرب في أوكرانيا، وهي بحاجة إلى كسب حلفاء جدد، خاصة في الشرق الأوسط، لتعزيز موقفها الجيوسياسي.
روسيا تسعى إلى تقديم نفسها كبديل للولايات المتحدة في قضايا الشرق الأوسط، خاصة بعد أن فقدت واشنطن الكثير من مصداقيتها نتيجة انحيازها الصارخ لإسرائيل في حرب غزة.
موسكو تريد أن تؤكد للعالم العربي أنها ليست مجرد شريك اقتصادي أو عسكري، بل لاعب سياسي قادر على التأثير في واحدة من أكثر القضايا تعقيداً في المنطقة.
منذ عام 2007، شهدت القضية الفلسطينية عشرات الاجتماعات والمبادرات للمصالحة، لكنها لم تحقق أي نتائج حقيقية. وهنا تبرز عدة أسباب جوهرية تجعل من الصعب تحقيق المصالحة حتى في ظل الوساطة الروسية:
المصالح المتضاربة بين فتح وحماس
فتح: تسعى إلى إبقاء سيطرتها على الضفة الغربية، وتؤمن بأن الحل يكمن في المفاوضات مع إسرائيل رغم فشلها المستمر.
أما حماس تؤمن بالمقاومة المسلحة كخيار رئيسي، خاصة بعد تصاعد الدعم الشعبي للمقاومة في غزة والضفة. فتح ترتبط بدول تدعم الحل السياسي مثل مصر والأردن، بينما تحظى حماس بدعم إيران وتركيا وقطر.
التدخلات الإقليمية والدولية الولايات المتحدة وإسرائيل، لا يرغبون في أي وحدة فلسطينية حقيقية، لأن ذلك يعني تقوية الموقف الفلسطيني دولياً، وهو ما يتعارض مع الاستراتيجية الإسرائيلية القائمة على تقسيم الفلسطينيين وإضعافهم.
دول عربية مختلفة المصالح: مصر تدعم المصالحة لكنها تريد أن تكون الوسيط الأساسي، بينما تعتبر قطر وتركيا وإيران أن أي اتفاق يجب أن يحفظ لحماس نفوذها.
غياب الإرادة السياسية الداخلية هناك مستفيدون داخل كلا الطرفين من استمرار الانقسام، حيث يتمسك كل طرف بسلطته ومصالحه الاقتصادية والسياسية، ولا يرغب أي منهما في تقديم تنازلات حقيقية.
على عكس الولايات المتحدة، التي تدعم إسرائيل بشكل كامل، تمتلك روسيا علاقات جيدة مع فتح وحماس وإيران، ما يمنحها مساحة للمناورة.
على الرغم من دعمها المعلن للفلسطينيين، تحتفظ موسكو بعلاقات جيدة مع إسرائيل، مما يمنحها بعض النفوذ في المفاوضات.
لكن روسيا لا تمتلك الأدوات الكافية لإجبار الأطراف الفلسطينية على تقديم تنازلات، ولا تملك النفوذ الاقتصادي الذي تمتلكه دول مثل قطر والسعودية للضغط على الفصائل.
رغم تراجع الدور الأمريكي في المنطقة، لا تزال واشنطن اللاعب الأكبر، وقد تستخدم أدوات ضغط اقتصادية وسياسية لإفشال أي تحرك روسي.
مجرد جمع الأطراف في موسكو لا يعني تحقيق المصالحة، فما لم تكن هناك آلية تنفيذ واضحة، ستبقى هذه اللقاءات مجرد استعراض دبلوماسي.
هذا السيناريو هو الأكثر ترجيحاً، إذ ستنتهي الاجتماعات وتواليها كما انتهت سابقاتها، بدون نتائج ملموسة، لأن الظروف الموضوعية للمصالحة لم تتغير.قد تسفر الاجتماعات عن اتفاقات شكلية دون آليات تنفيذ حقيقية، ما يعني أن الخلافات ستعود سريعاً، خاصة عند أول أزمة سياسية أو عسكرية. إذا تمكنت روسيا من إقناع إيران وقطر ومصر والسعودية بالضغط على حماس وفتح لتقديم تنازلات متبادلة، فقد نشهد اتفاقاً أكثر جدية، لكن هذا يتطلب إرادة سياسية حقيقية من الطرفين الفلسطينيين، وهو ما لم يتحقق حتى الآن.
رغم أن الدور الروسي في الملف الفلسطيني قد يبدو مثيراً للاهتمام، إلا أن الحقائق على الأرض تشير إلى أن تحقيق المصالحة الفلسطينية يظل معقداً للغاية. فغياب الإرادة السياسية، وتداخل المصالح الإقليمية والدولية، واستمرار الاحتلال الإسرائيلي، كلها عوامل تجعل من المصالحة أمراً بالغ الصعوبة.
ومع ذلك، فإن انعقاد اللقاءات في موسكو يحمل بعداً سياسياً مهماً، حيث يثبت أن القضية الفلسطينية لا تزال محور اهتمام عالمي، وأن هناك بدائل للمسار الأمريكي الفاشل في عملية السلام.
لكن يبقى السؤال الأهم: هل تستطيع روسيا تجاوز العقبات التي فشلت أمامها قوى إقليمية كبرى، أم أن هذا الاجتماع ليس أكثر من مناورة سياسية لتعزيز مكانة موسكو في الشرق الأوسط؟
“بعمق” زاوية أسبوعية سياسية تحليلية على “شُبّاك” يكتبها رئيس التحرير: مالك الحافظ