في عام 1171م، انتهت الدولة الفاطمية التي حكمت مصر لما يقرب من قرنين من الزمن، بعد أن أطاح بها القائد الكردي صلاح الدين الأيوبي، ليعيد مصر إلى الحكم السني العباسي. كانت هذه لحظة فارقة في تاريخ العالم الإسلامي، ليس فقط لأنها أنهت الحكم الفاطمي، ولكن لأنها مهدت الطريق لصعود الأيوبيين، الذين أصبحوا القوة المهيمنة في المنطقة.
لكن السؤال الأهم: هل كان سقوط الفاطميين نتيجة طبيعية لانهيارهم الداخلي، أم أن صلاح الدين كان ينفذ خطة محكمة لإسقاطهم؟ وهل كان هدفه الحقيقي توحيد العالم الإسلامي تحت راية واحدة، أم القضاء على النفوذ الشيعي الفاطمي؟
1- الدولة الفاطمية قبل سقوطها: لماذا ضعفت؟
أ- ضعف الخلفاء الفاطميين وتحولهم إلى رموز بلا سلطة
خلال العقود الأخيرة من حكم الفاطميين، ضعف الخلفاء بشكل كبير، وأصبحوا مجرد رموز دينية دون قوة فعلية.
تحول الحكم إلى يد الوزراء العسكريين، الذين كانوا يسيطرون فعلياً على الدولة، ويتصارعون فيما بينهم على النفوذ.
أصبح الخلفاء ألعوبة بيد القادة العسكريين، مما أدى إلى تفكك السلطة المركزية في الدولة.
ب- الصراعات الداخلية بين الوزراء وضعف الجيش
نشب صراع كبير بين الوزيرين ضرغام وشاور، حيث حاول كل منهما الاستيلاء على السلطة، مما أدى إلى استنزاف موارد الدولة.
أدى هذا الصراع إلى استعانة كل وزير بقوة خارجية، حيث طلب شاور دعم نور الدين زنكي، زعيم الدولة الزنكية في الشام، بينما لجأ ضرغام إلى الصليبيين.
هذا الصراع الداخلي أضعف الجيش الفاطمي وأدى إلى انهيار النظام الإداري والاقتصادي في مصر.
ج- التدخل النوري: دخول أسد الدين شيركوه وصلاح الدين إلى مصر
استغل نور الدين زنكي هذا الصراع الداخلي لإرسال جيشه إلى مصر بقيادة أسد الدين شيركوه وصلاح الدين الأيوبي، لمساندة شاور في مواجهة خصومه.
تمكن شيركوه من السيطرة على مصر، لكن بعد وفاته عام 1169م، تولى صلاح الدين منصب وزير الدولة الفاطمية، رغم أنه كان سنياً في دولة شيعية إسماعيلية.
2- خطة صلاح الدين لإسقاط الفاطميين: كيف استغل الوضع لصالحه؟
أ- السيطرة على الجيش وإقصاء القادة الفاطميين
رغم أنه بدأ كوزير للخليفة الفاطمي، إلا أن صلاح الدين بدأ تدريجياً في استبدال القادة العسكريين الفاطميين بقادة موالين له من الأيوبيين.
قام بتقليص نفوذ الحرس الفاطمي، الذي كان يشكل قوة عسكرية داخلية مستقلة، واستبدله بقوات موالية له.
بهذه الخطوة، أصبح الجيش المصري بالكامل تحت سيطرته، مما مكنه من تنفيذ خططه دون مقاومة فعلية.
ب- القضاء على النفوذ الفاطمي في المؤسسات الدينية والقضاء
بدأ صلاح الدين بإلغاء الخطبة للخليفة الفاطمي في المساجد، واستبدلها بالدعاء للخليفة العباسي في بغداد، وهي خطوة رمزية تعني انتهاء الحكم الفاطمي فعلياً.
قام بإقصاء القضاة والمفتين الفاطميين، واستبدلهم بقضاة من المذهب السني الشافعي، مما أدى إلى تغيير كامل في التوجه الديني للدولة.
بدأ في تفكيك شبكات الدعم الفاطمية داخل مصر، بما في ذلك الجهاز الإداري، مما أدى إلى انهيار البيروقراطية الفاطمية القديمة.
ج- اللحظة الحاسمة: وفاة الخليفة العاضد وإعلان نهاية الدولة الفاطمية
في عام 1171م، توفي آخر الخلفاء الفاطميين، العاضد بالله، دون أن يتمكن من مقاومة صلاح الدين.
استغل صلاح الدين الفرصة ليعلن إلغاء الخلافة الفاطمية رسمياً وضم مصر إلى الدولة العباسية.
لم يكن هناك أي مقاومة حقيقية لهذه الخطوة، لأن صلاح الدين كان قد استكمل السيطرة على الجيش والإدارة بالكامل.
3- لماذا لم تحدث مقاومة قوية ضد صلاح الدين؟
أ- دعم الشعب لصلاح الدين بسبب الإصلاحات الاقتصادية
كانت مصر تمر بأزمة اقتصادية حادة بسبب الحروب الداخلية بين الوزراء الفاطميين، لكن صلاح الدين قام بإصلاحات مالية كبرى، مما جعله يكسب تأييد التجار والعامة.
قام بتخفيض الضرائب وتحسين نظام الري والزراعة، مما أدى إلى تحسن الوضع المعيشي للسكان.
ب- تراجع النفوذ الفاطمي وانقسام النخبة السياسية
كان النبلاء الفاطميون منقسمين بين من يدعم صلاح الدين ومن يريد المقاومة، لكن معظمهم كانوا يركزون على مصالحهم الشخصية أكثر من الدفاع عن الدولة.
لم يكن للخليفة العاضد أي سلطة فعلية، وكان مجرد رمز دون قوة سياسية حقيقية.
ج- دعم نور الدين زنكي لصلاح الدين
كان نور الدين زنكي، حاكم الشام، يدعم صلاح الدين بالكامل، مما أعطاه غطاءً سياسياً وعسكرياً قوياً.
لم يكن الفاطميون يملكون تحالفات خارجية قوية يمكنهم الاعتماد عليها لمواجهة صلاح الدين.
4- ما بعد سقوط الفاطميين: كيف تغيرت مصر؟
أ- تحول مصر إلى مركز للقوة السنية في العالم الإسلامي
بعد سقوط الفاطميين، أصبحت مصر أهم قاعدة سنية في العالم الإسلامي، وبدأت باللعب دوراً رئيسياً في مقاومة الصليبيين.
تحول الأزهر، الذي كان مركزاً للتعليم الشيعي، إلى مؤسسة سنية شافعية، مما غيّر طبيعة التعليم الديني في مصر بالكامل.
ب- تأسيس الدولة الأيوبية وبداية عصر جديد
قام صلاح الدين بتأسيس الدولة الأيوبية، التي حكمت مصر والشام والحجاز واليمن، وأصبحت القوة الإسلامية المهيمنة.
بدأ بناء جيش قوي، وهو الجيش الذي قاد لاحقاً حروب التحرير ضد الصليبيين واستعادة القدس.
ج- القضاء على النفوذ الإسماعيلي في مصر
بعد سقوط الفاطميين، بدأت حملات تطهير ضد المذهب الإسماعيلي في مصر، حيث تم القضاء على العديد من أتباعه أو إجبارهم على التخلي عن معتقداتهم.
على الرغم من ذلك، ظل هناك جيوب من الفاطميين المتبقين، لكنهم لم يتمكنوا من استعادة قوتهم السياسية أبداً.
يبقى السؤال: هل كان يمكن للفاطميين البقاء لو لم يظهر صلاح الدين؟
لو لم تحدث الصراعات الداخلية بين الوزراء الفاطميين، ربما كان بإمكانهم مقاومة صلاح الدين لفترة أطول.
لو كان لديهم جيش قوي وقادة مخلصون، ربما كانوا قادرين على الصمود ضد الهجوم الزنكي.
لكن في ظل ضعف الخلفاء، والانقسامات الداخلية، ودخول قائد حازم مثل صلاح الدين، كان سقوطهم مسألة وقت فقط.
لكن يبقى السؤال الأهم: هل كان سقوط الفاطميين مجرد تغيير سياسي، أم أنه أعاد تشكيل العالم الإسلامي بالكامل؟