عند الحديث عن سقوط الدولة الأموية في المشرق، وانهيار حكمها بعد معركة الزاب الكبرى عام 750م، تبرز شخصية عبد الرحمن الداخل كحالة فريدة في التاريخ الإسلامي. فهو الأمير الأموي الوحيد الذي نجا من المذبحة العباسية، لكنه لم يكن مجرد ناجٍ أو لاجئ سياسي يبحث عن مأوى، بل كان رجلاً ذا رؤية سياسية، استطاع تحويل هروبه إلى مشروع سياسي ودولة جديدة في الأندلس. ومع ذلك، يبقى السؤال: هل كان عبد الرحمن الداخل مجرد أمير أموي هارب يبحث عن أرض بديلة لحكم أجداده، أم أنه أعاد تأسيس إمبراطورية مستقلة لها هوية جديدة، منفصلة عن المشرق؟
الهروب من العباسيين: البداية أم الدافع؟
بعد سقوط الدولة الأموية في دمشق، بدأ العباسيون في حملة تطهير دموية ضد كل من يحمل الدم الأموي، وكان عبد الرحمن بن معاوية، حفيد هشام بن عبد الملك، واحداً من القلائل الذين تمكنوا من الهرب. أمضى ست سنوات في الصحراء متنقلاً بين فلسطين ومصر والمغرب الأقصى، متنصلاً من العباسيين الذين لاحقوه حتى وهو في المنفى. لكن خلال هذه السنوات، لم يكن مجرد لاجئ سياسي، بل كان يعمل بذكاء على بناء شبكة من المؤيدين والأنصار، سواء من بقايا الأمويين أو القبائل العربية والبربرية الناقمة على الحكم العباسي أو الأمويين المحليين المتناحرين في الأندلس.
خلال هذه المرحلة، بدا واضحاً أن عبد الرحمن لم يكن يبحث عن ملجأ، بل عن فرصة لإحياء مشروع سياسي جديد، حيث أدرك أن الأندلس كانت تعاني من الانقسامات بين العرب والبربر، ومن صراع بين يوسف الفهري والصميل بن حاتم، ما جعلها بيئة خصبة لإقامة سلطة جديدة، خاصة بوجود أعداد كبيرة من الموالين للأمويين الذين فروا من المشرق بعد سقوط دولتهم.
دخول عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس: من الهارب إلى الفاتح
في عام 755م، عبر عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس، واستطاع في أقل من عام أن يهزم واليها يوسف الفهري في معركة قرب قرطبة، ليدخل المدينة ويعلن نفسه أميراً على الأندلس عام 756م. لم يكن هذا مجرد انقلاب عسكري، بل كان بداية تأسيس كيان سياسي جديد، حافظ على الهوية الأموية لكنه بدأ في تشكيل هوية أندلسية مختلفة، من حيث الإدارة والسياسة والاقتصاد والعلاقة مع القوى المجاورة.
الإمارة الأموية في الأندلس: هل كانت امتداداً للأمويين أم كياناً مستقلاً؟
بمجرد أن ثبت عبد الرحمن الداخل حكمه في قرطبة، بدأ العمل على تأسيس دولة ذات أسس قوية، حيث وضع نظام حكم مركزي، وبنى جهازاً إدارياً وجيشاً قوياً، واستفاد من مهاراته الدبلوماسية للحفاظ على استقلال الأندلس في وجه الخلافة العباسية في بغداد، ومملكة الفرنجة بقيادة شارلمان، والتهديدات الداخلية من القبائل والمتمردين.
لكن هل كانت هذه الإمارة مجرد محاولة لإحياء الدولة الأموية المنهارة؟ أم أنها كانت دولة جديدة بكل المقاييس؟
لم يعلن عبد الرحمن الداخل نفسه خليفة، ولم يدّعِ أنه الوريث الشرعي للخلافة الأموية، بل اكتفى بلقب “أمير الأندلس”، مما يشير إلى أنه كان يدرك الفرق بين تأسيس خلافة جديدة وبين إنشاء كيان سياسي مستقل.
لم يعتمد على القبائل العربية فقط، بل استوعب البربر والمولَّدين (المسلمون من أصول إسبانية)، وسعى إلى دمج الأندلسيين في مشروعه السياسي، ما جعله قائداً يتجاوز كونه مجرد أمير أموي منفي.
على المستوى العسكري، اعتمد على جيش من المرتزقة المحليين، وليس فقط على القبائل العربية المهاجرة من المشرق، مما يعكس وعياً بضرورة تأسيس كيان مختلف عن دولة دمشق الأموية.
السياسات الداخلية والخارجية: عبقرية البقاء
واجه عبد الرحمن الداخل عدة تحديات، كان أخطرها:
التهديد العباسي: حيث حاول العباسيون استعادة الأندلس من خلال تحريض الثورات الداخلية، لكن عبد الرحمن الداخل سحق كل المحاولات، وأعدم كل من حاول التعاون مع بغداد.
الصراعات القبلية العربية: كان الانقسام بين القيسيين واليمنيين أحد عوامل ضعف الأندلس، لكنه استطاع فرض سلطة مركزية قوية وضبط التوازنات القبلية لصالح الدولة.
الخطر المسيحي من الشمال: واجه ملوك أستورياس والفرنجة بقيادة شارلمان، واستطاع ردّ غزواتهم، ما حافظ على استقرار الدولة الوليدة.
تحدي الإدارة والاقتصاد: بدأ بتنظيم الموارد الاقتصادية، واستفاد من خبرات الفاتحين الأوائل، ليجعل من قرطبة مركزاً تجارياً مزدهراً، مما جعل الأندلس واحدة من أغنى مناطق أوروبا في ذلك الوقت.
بالنظر إلى مسار عبد الرحمن الداخل، لا يمكن وصفه بأنه مجرد هارب سياسي، فقد دخل الأندلس بجيش، وخاض حرباً شرسة، وأسس كياناً سياسياً استمر لقرون. لكنه أيضاً لم يكن مجرد خليفة أموي جديد، بل كان مؤسساً لدولة ذات هوية مختلفة عن الدولة الأموية في دمشق، ما جعل الأندلس خلال حكمه وحكم خلفائه مركزاً حضارياً عالمياً.
إذن، عبد الرحمن الداخل كان أكثر من لاجئ سياسي، وأقل من مؤسس خلافة. كان رجل دولة استطاع بذكائه ودهائه تحويل الهزيمة إلى فرصة، وهكذا وضع حجر الأساس لما أصبح لاحقاً الخلافة الأموية في الأندلس، واحدة من أعظم الدول في التاريخ الإسلامي.