نتائج الانتخابات العامة في النمسا تمثل لحظة فارقة في التاريخ السياسي للبلاد هناك، حيث تمكن حزب الحرية النمساوي اليميني المتطرف من تصدر المشهد لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية. هذا الحدث لا يمكن اعتباره مجرد فوز انتخابي لحزب يميني متشدد بقدر ما يعكس تحولًا أوسع في المزاج السياسي داخل النمسا، وربما في أوروبا بأكملها.
حصول حزب الحرية على 28.8% من الأصوات ليس مجرد تفوق عددي، بل هو بمثابة مؤشر على انزياح عميق نحو اليمين الشعبوي في النمسا، الأمر الذي يطرح تساؤلات حاسمة حول العوامل التي دفعت الناخبين إلى هذا الاتجاه. فقد كان المشهد السياسي النمساوي تقليديًا محكومًا بالتوازن بين يمين الوسط ممثلًا في حزب الشعب، ويسار الوسط ممثلًا بالحزب الديمقراطي الاجتماعي، غير أن هذه الانتخابات جاءت لتكسر هذا النمط، مما يشير إلى أن الناخبين باتوا يميلون إلى خيارات أكثر تشددًا تعبر عن حالة الغضب الشعبي تجاه النخبة السياسية التقليدية.
أحد أبرز العوامل التي ساهمت في هذا التحول هو تزايد المخاوف المتعلقة بالهجرة والأمن والهوية الوطنية، وهي قضايا استثمر فيها حزب الحرية بفعالية كبيرة، مقدمًا نفسه كمدافع عن قيم المجتمع النمساوي في مواجهة ما يصفه بـ”التهديدات الخارجية”. فمنذ أزمة اللاجئين عام 2015، تصاعدت المشاعر المناهضة للهجرة في النمسا، واستغل الحزب هذه القضية في حملاته الانتخابية، متهمًا الأحزاب التقليدية بالتساهل في سياسات اللجوء، مما أثر على الأمن والاقتصاد، وفق روايته.
لكن اللافت في هذه الانتخابات هو أن حزب الشعب، الذي يقود الحكومة حاليًا، جاء في المركز الثاني بنسبة 26.3%، ما يعني أنه رغم تراجعه، لا يزال يتمتع بشعبية كبيرة، مما قد يضعه في موقع تفاوضي قوي لتشكيل حكومة جديدة. ومع ذلك، فإن وصول حزب الحرية إلى الصدارة يضع تحديات أمام مستقبل التحالفات السياسية في النمسا، فالحزب معروف بمواقفه المتشددة وأيديولوجيته القومية، وهو ما قد يصعب إمكانية تشكيل تحالفات مستقرة مع الأحزاب الأخرى، خاصة في ظل تحفظ قطاعات واسعة من المجتمع النمساوي والأوروبي على سياسات هذا الحزب.
أما الحزب الديمقراطي الاجتماعي، الذي حصل على 21.1% من الأصوات، فقد وجد نفسه في موقع أضعف مما كان يتوقع، مما يعكس أزمة اليسار التقليدي في أوروبا، حيث أصبح من الصعب عليه استقطاب الناخبين الذين باتوا ينجذبون أكثر إلى اليمين الشعبوي أو المحافظين. وبينما يعاني التيار الليبرالي والبيئي من تراجع واضح، كما ظهر في النسبة الضعيفة التي حصل عليها حزب الخضر (8.3%) وحزب النمسا الجديدة الليبرالي (9.3%)، يتبين أن الناخب النمساوي بات يميل إلى الخيارات الأكثر صرامة، خاصة فيما يتعلق بالقضايا الاقتصادية والاجتماعية والهجرة.
هذا التحول في النمسا لا يمكن عزله عن السياق الأوروبي الأوسع، إذ يشهد العديد من الدول الأوروبية صعودًا مماثلًا لأحزاب اليمين المتطرف. فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، وحتى الدول الاسكندنافية لم تعد استثناءً، حيث حققت الأحزاب اليمينية القومية تقدمًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة، مستغلة الإحباط الشعبي من السياسات الاقتصادية والهجرة والعولمة. هذا المشهد يثير قلق المؤسسات الأوروبية، التي تنظر بعين الريبة إلى تنامي النزعات القومية داخل الاتحاد الأوروبي، وهو ما قد يعرقل جهود التكامل الأوروبي ويفتح المجال أمام سياسات أكثر انعزالية على المستوى القاري.
لكن السؤال الأهم الآن هو: ماذا بعد؟ هل سيتحول صعود حزب الحرية إلى تغيير جوهري في السياسة النمساوية، أم أن هذا الصعود ما هو إلا موجة احتجاجية قد تتلاشى بمرور الوقت؟ تشكيل الحكومة المقبلة سيكون الاختبار الحقيقي، فإذا تمكن الحزب من بناء تحالف قوي وإثبات قدرته على الحكم بفعالية، فقد يكون هذا إيذانًا بمرحلة جديدة في تاريخ النمسا السياسي. أما إذا فشل في ذلك، فقد يجد نفسه مجرد ورقة ضغط استخدمها الناخبون الغاضبون للتعبير عن استيائهم من الوضع القائم، قبل أن يعود المشهد السياسي إلى توازناته السابقة.
تبقى النمسا الآن أمام مفترق طرق، إما أن تتبنى سياسة يمينية قومية أكثر تشددًا على غرار بعض دول أوروبا الشرقية، أو أن تسعى الأحزاب التقليدية إلى إعادة استقطاب الناخبين عبر سياسات أكثر استجابة لاحتياجاتهم الحقيقية، بدلًا من ترك المجال مفتوحًا لخطاب التخويف والشعبوية. فالمسألة لا تتعلق فقط بنتائج انتخابات، بل بمستقبل بلد كان لعقود طويلة نموذجًا للاستقرار السياسي، لكنه الآن أمام اختبار قد يحدد مساره لسنوات قادمة.
“بعمق” زاوية أسبوعية سياسية تحليلية على “شُبّاك” يكتبها رئيس التحرير: مالك الحافظ