الأحد. ديسمبر 29th, 2024

صناعة البودكاست الناجحة في الصحافة ومع الجمهور


اعتُبر عامي 2015 و2016 من سنين البودكاست الأفضل بامتياز بعد أن ظهرت عدة نماذج من بودكاستات ناجحة لفتت إليها الأنظار، ويتابعها الملايين على غرار “مخزِ” في بريطانيا الذي يقرأ فيه المشاركون مقاطع من مذكرات طفولتهم على الجماهير، و”القلب” الذي يتناول مواضيع الصداقة والحب والعلاقات، حسب قائمة الغارديان البريطانية لأفضل 50 بودكاست في سنة 2016،  وكذلك Modern love أو “الحب العصري” الذي تشرف عليه صحيفة النيويورك تايمز الأمريكية، أو سامبلر (sampler)، الذي يتعرض لموضوع البودكاست في حد ذاته وأنواعه والمستجد عليه، أو “هير إيز ذي ثينغ”  (Here is the thing)  الذي يقدمه الممثل الأمريكي المعروف “أليك بالدوين”، ويحاور فيه مشاهير الفن والثقافة والسينما، وغيرها من مئات البودكاستات التي وجدت طريقها إلى المستمع واستطاعت أن تضمن مكانا لها ضمن مختلف وسائط الإعلام المتعددة.

تقرير صادر في 2017 عن منظمة “إيديسون” الأميركية، أفاد بأن 40 ممن سنهم فوق 12 سنة استمعوا إلى بودكاست مرة واحدة في حياتهم على الأقل، وأن 24 استمعوا  إلى بودكاست قبل شهر من البحث، بنسبة ارتفاع بلغت 21? عن السنة التي قبلها. كما أشار التقرير نفسه إلى أن نسبة الذين يستمتعون إلى البودكاست أعلى من نسبة مستمعي الراديو بـ 9، حيث بلغت نسبة متابعي البودكاست 30 بينما لم تتجاوز نسبة مستمعي الراديو العادي 21،  ومستمعي المحطات الموسيقية الخاصة 24 وهي أرقام جاءت مفاجئة حول حجم انتشار البودكاست. 

ما هو البودكاست؟

أول من استعمل هذه التسمية هو الصحفي والإعلامي البريطاني “بان هامرسلي” (Ben Hemmersley) في واحد من مقالاته لصحيفة الغارديان البريطانية، عندما أشار إلى أنه يبحث عن تسمية لوسيط جديد يعمل على اكتشافه، وأنه فكر في استعارة كلمة “بود” من شركة آبل (Ipod) وكاست (Cast) القادمة من  برودكاستنغ (Broadcasting)التي تعني البث أو الإذاعة..  بودكاست إذن هو مزيج من كلمتين هما: “أيباد” و”برودكاست”. ولتسهيل تعريف البودكاست يمكن تشبيهه براديو إنترنت، وإن اختلف عنه في العديد من الجوانب، فضلا عن اختلافه الكلي مع الراديو العادي، سواء على موجات “AM” أو “FM” لأن البث العادي يهدف إلى الوصول لأكبر عدد من المستمعين، وهو ما يجلب إليه شركات الدعاية، في حين أن الدعاية في البودكاست مضمنة في المحتوى. والبودكاست –عكس الراديو- يقصر نفسه على فئة معينة من المستمعين المهتمين بالمحتوى الخاص والضيق الذي يقدمه. في المقابل يمكن القول إن عدد مستمعيه بدؤوا يفوقون مستمعي الراديو العادي في الأعوام الأخيرة، فضلا عن أن نوعية المستمع مختلفة، ففي حالة البودكاست يأتي المستمع من تلقاء نفسه ليشترك في البودكاست الذي يلبي اهتماماته وحاجياته أي أنه مستمع مهتم على عكس مستمع الراديو الذي يُفرض عليه الاستماع.

البودكاست يختلف عن الراديو العادي أيضا في كونه ينتج “تحت الطلب” أي في سياق الثيمة التي يتوقعها منخرطيه ووفق احتياجاتهم ومطالبهم التقنية مثلا أو الرياضية، بحسب ما أفاد به موقع “معهد الجزيرة للإعلام”.

كل بودكاست ملزم بأن تكون له صفحة إنترنت خاصة به، ينزل عليها حلقاته، ويطرح مواضيعه ويتفاعل من خلالها مع مستمعيه، لكن الاستماع إليه لا يتم بالضرورة من خلال هذه الصفحة وحدها، إذ يمكن تحميله على أي جهاز استماع أو جهاز هاتف أو تاب أو غيرها، من خلال التطبيقات الخاصة بتحميل البودكاست، غير أن ما يجعل البودكاست وسيطا فريدا من نوعه حقا هو قابليته لأن يُبث بشكل مباشر وسريع على نقاط توزيع متعددة مثل “أي تيونز” (Itunes) و”ستيكرراديو” (Sticker Radio) و”بودكاتشر” (Podcatcher) عبر الـ”أر أس أس” (RSS). 

بإمكان المستمعين الاشتراك في البودكاست الذي يرغبون في متابعته -وأغلبها مجاني- عبر الضغط على أيقونة أر إس إس الخاصة به أو زر الاشتراك (subscribe). بمجرد الضغط يتلقى المستمع الخيارات المتاحة لتنزيل البودكاست بالطريقة التي يرغب بها، ويتلقى مع ظهور كل حلقة جديدة إشعارا، بحيث لا يضطر لفتح الموقع الخاص بالبودكاست لتنزيله.

البودكاست كوسيلة ربح

في الأعوام الأخيرة زادت معاناة الصحف الورقية والمواقع الإلكترونية ومحطات الإذاعة والتلفزيون في توفير العائد المادي الذي يضمن استمرارها في ظل صعود منصات بديلة لفتت إليها أنظار المتابعين، وجعلت دور الصحافة التقليدية ينحسر ويتراجع إلى أدنى مستوياته. هذا الأمر أجبر العديد من الصحف الورقية وغيرها على غلق أبوابها نهائيا، أو التحول إلى مواقع إلكترونية، وألزم الشق الآخر باتباع خطط تسويقية مختلفة أثرت على المحتوى بدرجة أساسية، ولم تؤد إلى نتائج ملموسة. في ظل هذا السباق الشاق نحو الزيادة في مداخيل وسائل الإعلام، يعتبر البودكاست واحدا من بين الحلول الفعالة القادرة على حل مشكل العائدات المادية للصحافة المقروءة والمرئية والمسموعة على حد سواء. وقد انتبهت الصحافة الغربية إلى أهميته فسعت منذ بداية ظهوره، إلى استغلاله في هذا الجانب، مثل صحيفة “النيويورك تايمز” الأميركية التي تقدم مجموعة من البودكاستات الناجحة على غرار “لوف ماترز”. إذا تمكن البودكاست من لفت انتباه المتابعين، فإن عدد منخرطيه قد يصل إلى الملايين، ما من شأنه أن يوفر عائدا جيدا من قيمة الاشتراكات.

المحتوى

المحتوى بالنسبة للبودكاست مهم ورئيسي ويعتبر نقطة التركيز الأولى، عكس الوسائط الأخرى التي تهتم بطريقة التقديم ووسائل الإيصال وجودة التقنية وطرق الجذب وشد الانتباه. في حالة البودكاست فإن وسيلة شد الانتباه الأهم هي المحتوى، تأتي بعد ذلك الاعتبارات التقنية والفنية الأخرى مثل صوت مقدم البودكاست وشخصيته ومهاراته وقدرته على شد الانتباه، إضافة لجودة الموسيقى والتمريرات الصوتية داخله وغيرها.

متابعو البودكاست يتميزون بكونهم “منخرطين”، لأنهم يشتركون في بودكاست معين برغبة حقيقة واهتمام حقيقي، ولا يفرض عليهم الاستماع إليه كما هو شأن برامج الراديو مثلا. الدافع الحقيقي للانخراط والتفاعل هو نوعية المحتوى الذي يقدمه البودكاست، لذلك فإن أول عامل من عوامل نجاح البودكاست هو تقديم محتوى متميز وجذاب للمستمعين، أما باقي العوامل الأخرى فهي وإن ظلت مهمة، إلا أنها تبقى ثانوية بالنسبة للمحتوى، وربما لهذا السبب سمي البودكاست في بداية ظهوره بـ”راديو الهواة”  أو “إذاعة القبو” أو غيرها من التسميات التي تدل على أن جودته التقنية لم تكن مهمة في بداية ظهوره، ثم مع تطوره وزيادة الاهتمام به وانتشاره وبلوغه ملايين المشتركين اهتمت شركات الصناعات الإلكترونية والهواتف النقالة بتطوير التقنيات الخاصة به وتنزيله وأصبحت الجودة عاملا مميزا للبودكاست الناجح أيضا.

يستطيع البودكاست أن يركز على مواضيع وثيمات محددة يُعتقد أنها تجلب اهتمام المستمع، مثل رسائل محبين أو حكايات للأطفال أو حوارات مع مشاهير أو قصص لناجحين أو تجارب لسيدات متميزات أو غيرها من المواضيع المختلفة. ويبقى الأسلوب الأقرب للبودكاست هو السرد القصصي (Storytelling) لما فيه من تشويق وحبكة وتصاعد درامي قادر على شد الانتباه، لكن الحوارات واللقاءات يمكنها كذلك أن تحقق نجاحا جيدا إذا توفرت فيها عوامل النجاح الأساسية.

من الصحيفة إلى الميكروفون

لا تزال الصحافة الإذاعية تحمل الكثير من عناصر جاذبيتها وأهميتها بالنسبة للجمهور، وفي المدن المزدحمة مروريا مثل القاهرة وعمان ودبي تحقق المحطات الإذاعية نسبة استماع عالية، عندما تمزج بين الإخبار والتسلية والخدمات، وهي بذلك أيضا تحقق إيرادات عالية. وتحتل الصحافة الإذاعية مكانة كبيرة أيضا بين شريحة واسعة من الجمهور تعمل في أماكن بعيدة كالحقول والمناطق الصناعية. كما أنها تتمتع بميزة مهمة لا تتوفر لغيرها من الوسائط، وهي إمكانية الاستماع لها أثناء القيام بمهمات أخرى، وخصوصا عند هؤلاء الذين يحتاج عملهم إلى مجهود يدوي أو بدني.

لهذه الأسباب يجب على غرف الأخبار الحديثة أن تولي اهتماما كبيرا، بالمحتوى الصوتي كعنصر أساسي لجذب الجمهور. وسواء كانت الخدمة المقدمة على الموجات الإذاعية أو على الإنترنت أو من خلال البودكاست فإن هذا المحتوى يوفر إيرادات جيدة تساعد على تعظيم هامش الربح الإجمالي للمؤسسة، فضلا عن إعادة تدوير المحتوى المكتوب للصحيفة، وهو ما من شأنه أن يأخذنا عمليا إلى غرفة الأخبار المدمجة أو الرقمية التي تعمل على الدمج بين الوسائط المتعددة. وهكذا يمكن لمقال ناجح حقق نسبة قراءة عالية أن تتم إعادة تدويره واستغلاله سمعيا من خلال بثه على شكل مادة مسموعة أيضا على البودكاست.

ويمكن للصحفي نفسه كاتب المقال أو الفيتشر الناجح أن يحوله إلى مادة مسموعة بعد الحصول على القليل من المهارات التي تخوله لذلك، والتي من أهمها معرفة الفرق بين الكتابة للصحيفة والكتابة للراديو، ومهارات التحرير الصوتي والصوت والأداء وبعض المهارات التقنية الأساسية، علما بأن إنتاج البودكاست يمكن أن يتم بتقنيات بسيطة وباستعمال بعض البرامج المتوفرة مجانا على الإنترنت وأجهزة الهاتف، أو من خلال توفير أستوديو صغير يلحق بالمؤسسة الإعلامية لإنتاج المحتوى الصوتي.

كانت بعض المؤسسات الإعلامية قد بدأت بالفعل في عملية تطوير المهارات المتعددة لصحفييها وإيجاد ما يسمى بالصحفي الشامل، في إطار الحد من تكاليف الإنتاج الإعلامي للمؤسسات. وتعتبر مهارات إنتاج وإعداد وتحرير وتقديم البودكاست من الأساسيات التي يجب أن يأخذها صحفي المستقبل الذي يرغب في أن يكون شاملا وملما بالإنتاج للوسائط المتعددة، خصوصا في ظل انتقال أغلب مواقع الإنترنت إلى الديجيتال.

Related Post